وَيُؤْخَذُ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ الْحِنْثِ عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَفِي مَذْهَبِهِ وَجْهٌ اخْتَلَفَ فِيهِ التَّرْجِيحُ أَنَّ كَفَّارَةَ الْمَعْصِيَةِ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهَا.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْخِلَافُ فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ رُخْصَةٌ لِحَلِّ الْيَمِينِ أَوْ لِتَكْفِيرِ مَأْثَمِهَا بِالْحِنْثِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا رُخْصَةٌ شَرَعَهَا اللَّهُ لِحَلِّ مَا عُقِدَ مِنَ الْيَمِينِ فَلِذَلِكَ تُجْزِئُ قَبْلُ وَبَعْدُ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: لِلْكَفَّارَةِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ: أَحَدُهَا قَبْلَ الْحَلِفِ فَلَا تُجْزِئُ اتِّفَاقًا. ثَانِيهَا بَعْدَ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ فَتُجْزِئُ اتِّفَاقًا. ثَالِثُهَا بَعْدَ الْحَلِفِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ فَفِيهَا الْخِلَافُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ لَفْظُ الْحَدِيثِ فَقَدَّمَ الْكَفَّارَةَ مَرَّةً وَأَخَّرَهَا أُخْرَى لَكِنْ بِحَرْفِ الْوَاوِ الَّذِي لَا يُوجِبُ رُتْبَةً، وَمَنْ مَنَعَ رَأَى أَنَّهَا لَمْ تَجْزِ فَصَارَتْ كَالتَّطَوُّعِ، وَالتَّطَوُّعُ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْوَاجِبِ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ، وَابْنُ التِّينِ وَجَمَاعَةٌ: الرِّوَايَتَانِ دَالَّتَانِ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُرَتِّبُ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَلَوْ كَانَ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ لَا يُجْزِئُ لَأَبَانَهُ، وَلَقَالَ: فَلْيَأْتِ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ، فَلَمَّا تَرَكَهُمْ عَلَى مُقْتَضَى اللِّسَانِ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ. قَالَ: وَأَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ فَهِيَ كَالْفَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلَوْ لَمْ تَأْتِ الثَّانِيَةُ لَمَا دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهَا أَبَانَتْ مَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ الْحَلِفِ، وَهُمَا شَيْئَانِ كَفَّارَةٌ وَحِنْثٌ وَلَا تَرْتِيبَ فِيهِمَا، وَهُوَ كَمَنْ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ الدَّارَ فَكُلْ وَاشْرَبْ. قُلْتُ: قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ بِلَفْظِ: ثُمَّ الَّتِي تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بِهِ: كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ أَحَالَ بِلَفْظِ الْمَتْنِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، كَأَبِي دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، مِثْلُهُ. لَكِنْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَرِيرٍ بِالْوَاوِ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَيْضًا بِلَفْظِ: ثُمَّ، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ، وَلَفْظُهُ: فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَفْعَلِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيَّةَ، وَأَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَالْقَاسِمُ التَّمِيمِيُّ هُوَ ابْنُ عَاصِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابُ الْيَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ وَحْدَهُ أَيْضًا، وَاقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ وَمَضَى فِي بَابُ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ جَمِيعًا عَنْ زَهْدَمٍ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَحْدَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ حَمَّادٍ وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الْعَتَكِيِّ، عَنْ حَمَّادٍ قَالَ: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَاصِمٍ الْكُلَيْبِيُّ بِمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّرٌ نِسْبَةً إِلَى بَنِي كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَهُوَ الْقَاسِمُ التَّمِيمِيُّ الْمَذْكُورُ قَبْلُ، قَالَ: وَأَنَا لِحَدِيثِ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ عَنْ زَهْدَمٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْعَتَكِيِّ وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ كِلَاهُمَا عَنْ زَهْدَمٍ، قَالَ أَيُّوبُ: وَأَنَا لِحَدِيثِ الْقَاسِمِ أَحْفَظُ.
قَوْلُهُ: (كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى) أَيِ الْأَشْعَرِيِّ، وَنُسِبَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَارِثِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ وَمَعْرُوفٌ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ هَذَا الْحَيِّ إِلَخْ، وَهُوَ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ زَادَ الضَّمِيرَ، وَقَدَّمَهُ عَلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: كَانَ حَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، أَيْ: أَبِي مُوسَى يَعْنِي لِأَنَّ زَهْدَمًا مِنْ جَرْمٍ، فَلَوْ كَانَ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ لَاسْتَقَامَ الْكَلَامُ، قَالَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَلَى الصَّوَابِ فِي بَابُ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ حَيْثُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، ثُمَّ حَمَلَ مَا وَقَعَ هُنَا عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ قَوْمِ أَبِي مُوسَى لِكَوْنِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فَصَارَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ فَأَرَادَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute