فَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ الرِّجَالَ هُمُ الْقَائِمُونَ بِالْأُمُورِ، وَفِيهِمْ مَعْنَى التَّعْصِيبِ وَتَرَى لَهُمُ الْعَرَبُ مَا لَا تَرَى لِلنِّسَاءِ فَعَبَّرَ بِلَفْظِ ذَكَرٍ إِشَارَةً إِلَى الْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا اخْتُصَّ بِذَلِكَ، فَهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ السَّبَبَ فِي وَصْفِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِذَكَرٍ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّ مُتَعَلَّقَ التَّنْبِيهِ فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّهُ فِي ابْنِ اللَّبُونِ إِشَارَةٌ إِلَى النَّقْصِ، وَفِي الرَّجُلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْفَضْلِ، وَهَذَا قَدْ لَخَصَّهُ الْقُرْطُبِيُّ وَارْتَضَاهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ وَصْفٌ لِأَوْلَى لَا لِرَجُلٍ؛ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِهِ وَتَبَجَّحَ بِهِ فَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْفَرَائِضِ وَفِيهِ إِشْكَالٌ وَقَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ عَلَى وَجْهٍ لَا تَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لَهُ الْكَلَامُ اخْتِصَارًا فَقَالُوا: هُوَ نَعْتٌ لِرَجُلٍ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ إِلَّا ذَكَرًا، وَكَلَامُهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى حَشْوٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَنَقَصَ فِقْهُ الْحَدِيثِ; لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الطِّفْلِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الرُّجُولِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ يَجِبُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ ابْنَ سَاعَةٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِهِ بِالْبَالِغِ دُونَ الصَّغِيرِ.
قَالَ: وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا سَيقَ لِبَيَانِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ مِنَ الْقَرَابَةِ بَعْدَ أَصْحَابِ السِّهَامِ، وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ قَرَابَةِ الْأَبِ وَقَرَابَةِ الْأُمِّ، قَالَ: فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ يُرِيدُ الْقَرِيبَ فِي النَّسَبِ الَّذِي قَرَابَتُهُ مِنْ قِبَلِ رَجُلٍ وَصُلْبٍ لَا مِنْ قِبَلِ بَطْنٍ وَرَحِمٍ، فَالْأَوْلَى هُنَا هُوَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِ فِي الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَهُوَ فِي اللَّفْظِ مُضَافٌ إِلَى النَّسَبِ، وَهُوَ الصُّلْبُ فَعَبَّرَ عَنِ الصُّلْبِ بِقَوْلِهِ: أَوْلَى رَجُلٍ لِأَنَّ الصُّلْبَ لَا يَكُونُ إِلَّا رَجُلًا فَأَفَادَ بِقَوْلِهِ: لِأَوْلَى رَجُلٍ نَفْيَ الْمِيرَاثِ عَنِ الْأَوْلَى الَّذِي هُوَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ كَالْخَالِ، وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ: ذَكَرٍ نَفْيَ الْمِيرَاثِ عَنِ النِّسَاءِ وَإِنْ كُنَّ مِنَ الْمُدْلِينَ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ قِبَلِ صُلْبٍ لِأَنَّهُنَّ إِنَاثٌ، قَالَ: وَسَبَبُ الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَخْفُوضًا ظُنَّ نَعْتًا لِرَجُلٍ، وَلَوْ كَانَ مَرْفُوعًا لَمْ يُشْكِلْ كَأَنْ يُقَالَ فَوَارِثُهُ أَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ أَفْعَلَ، وَهَذَا الْوَزْنُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ التَّفْضِيلُ كَانَ بَعْضَ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ كَفُلَانٍ أَعْلَمِ إِنْسَانٍ فَمَعْنَاهُ أَعْلَمُ النَّاسِ، فَتُوُهِّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: أَوْلَى رَجُلٍ أَوْلَى الرِّجَالِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَإِنَّمَا هُوَ أَوْلَى الْمَيِّتِ بِإِضَافَتِهِ النَّسَبَ وَأَوْلَى صُلْبٍ بِإِضَافَتِهِ كَمَا تَقُولُ: هُوَ أَخُوكَ أَخُو الرَّخَاءِ لَا أَخُو الْبَلَاءِ، قَالَ: فَالْأَوْلَى فِي الْحَدِيثِ كَالْوَلِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُضَافُ لِلْوَاحِدِ وَلَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْهُ؟ فَالْجَوَابُ: إِذَا كَانَ مَعْنَاهُ الْأَقْرَبَ فِي النَّسَبِ جَازَتْ إِضَافَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُزْءًا مِنْهُ كَقَوْلِهِ ﷺ فِي الْبِرِّ بِرَّ أُمَّكَ ثُمَّ أَبَاكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْمُوجَزِ مِنَ الْمَتَانَةِ وَكَثْرَةِ الْمَعَانِي مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ وَأَعَانَ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَلَا يَخْلُو مِنِ اسْتِغْلَاقٍ.
وَقَدْ لَخَصَّهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: ذَكَرٌ صِفَةٌ لِأَوْلَى لَا لِرَجُلٍ، وَالْأَوْلَى بِمَعْنَى الْقَرِيبِ الْأَقْرَبِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَهُوَ لِقَرِيبِ الْمَيِّتِ ذَكَرٍ مِنْ جِهَةِ رَجُلٍ وَصُلْبٍ، لَا مِنْ جِهَةِ بَطْنٍ وَرَحِمٍ، فَالْأَوْلَى مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُضَافٌ إِلَى الْمَيِّتِ، وَأُشِيرَ بِذِكْرِ الرَّجُلِ إِلَى الْأَوْلَوِيَّةِ فَأَفَادَ بِذَلِكَ نَفْيَ الْمِيرَاثِ عَنِ الْأَوْلَى الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ كَالْخَالِ، وَبِقَوْلِهِ ذَكَرٍ نَفْيُهُ عَنِ النِّسَاءِ بِالْعُصُوبَةِ وَإِنْ كُنَّ مِنَ الْمُدْلِينَ لِلْمَيِّتِ مِنْ جِهَةِ الصُّلْبِ انْتَهَى. وَقَدْ أَوْرَدْتُهُ كَمَا وَجَدْتُهُ وَلَمْ أَحْذِفْ مِنْهُ إِلَّا أَمْثِلَةً أَطَالَ بِهَا وَكَلِمَاتٍ طَوِيلَةً تَبَجَّحَ بِهَا بِسَبَبِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدُ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الْفُرُوضِ لِلْعَصَبَةِ يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَلَا يَرِثُ عَاصِبٌ بَعِيدٌ مَعَ عَاصِبٍ قَرِيبٍ، وَالْعَصَبَةُ كُلُّ ذَكَرٍ يُدْلِي بِنَفْسِهِ بِالْقَرَابَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ أُنْثَى، فَمَتَى انْفَرَدَ أَخَذَ جَمِيعَ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَوِي فُرُوضٍ غَيْرِ مُسْتَغْرِقِينَ أَخَذَ مَا بَقِيَ وَإِنْ كَانَ مَعَ مُسْتَغْرِقِينَ فَلَا شَيْءَ لَهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْفُقَهَاءِ الْأُخْتَ مَعَ الْبِنْتِ عَصَبَةً فَعَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ; لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَأْخُذُ مَا فَضَلَ عَنِ الْبِنْتِ أَشْبَهَتِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute