تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفَ بِحَالِ الشَّارِبِ، وَأَنَّ حَدَّ الْخَمْرِ لَا يُنْقَصُ عَنِ الْأَرْبَعِينَ وَلَا يُزَادُ عَلَى الثَّمَانِينَ، وَالْحُجَّةُ إِنَّمَا هِيَ فِي جَزْمِهِ بِأَنَّهُ ﷺ جَلَدَ أَرْبَعِينَ.
وَقَدْ جَمَعَ الطَّحَاوِيُّ بَيْنَهُمَا بِمَا أَخْرَجَهُ هُوَ وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ. وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ مِثْلَهُ لَكِنْ قَالَ: لَهُ ذَنَبَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً فِي الْخَمْرِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَهُ ثَمَانِينَ لِأَنَّ كُلَّ سَوْطٍ سَوْطَانِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ السَّنَدَ الْأَوَّلَ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ وُلِدَ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَبِأَنَّ الثَّانِيَ فِي سَنَدِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَعُرْوَةُ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ مُمَيِّزًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَلَيْسَ فِي الطَّرِيقَيْنِ أَنَّ الطَّرَفَيْنِ أَصَابَاهُ فِي كُلِّ ضَرْبَةٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَرَبَهُ بِالطَّرَفَيْنِ عِشْرِينَ فَأَرَادَ بِالْأَرْبَعِينَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ عِشْرِينَ وَعِشْرِينَ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْخَبَرِ: وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ، وَالتَّأْوِيلُ الْمَذْكُورُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ جَلَدَ ثَمَانِينَ فَلَا يَبْقَى هُنَاكَ عَدَدٌ يَقَعُ التَّفَاضُلُ فِيهِ.
وَأَمَّا دَعْوَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا الْإِشَارَةُ إِلَى الثَّمَانِينَ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ رَجَّحَ مَا فَعَلَ عُمَرُ عَلَى مَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِهِ؛ قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ لِضَعْفِ حَدِيثِ أَبِي سَاسَانَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ: إِنَّهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى إِلَخْ، قَالَ: فَلَمَّا اعْتَمَدَ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ عَلَى ضَرْبِ الْمَثَلِ وَاسْتَخْرَجَ الْحَدَّ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَوْقِيفَ عِنْدَهُ مِنَ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ جَزْمُهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَلَدَ أَرْبَعِينَ غَلَطًا مِنَ الرَّاوِي؛ إِذْ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إِلَى الْقِيَاسِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ وَسَائِرِ مَنْ ذُكِرَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ لَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يُتَّجَهُ الْإِنْكَارُ لَوْ كَانَ الْمَنْزَعُ وَاحِدًا فَأَمَّا مَعَ الِاخْتِلَافِ فَلَا يُتَّجَهُ الْإِنْكَارُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِي سِيَاقِ الْقِصَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ الْحَدَّ أَرْبَعُونَ وَإِنَّمَا تَشَاوَرُوا فِي أَمْرٍ يَحْصُلُ بِهِ الِارْتِدَاعُ يَزِيدُ عَلَى مَا كَانَ مُقَرَّرًا، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنَ التَّصْرِيحِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُمُ احْتَقَرُوا الْعُقُوبَةَ وَانْهَمَكُوا فَاقْتَضَى رَأْيُهُمْ أَنْ يُضِيفُوا إِلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ قَدْرُهُ إِمَّا اجْتِهَادًا بِنَاءً عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ فَيَكُونُ الْكُلُّ حَدًّا، أَوِ اسْتَنْبَطُوا مِنَ النَّصِّ مَعْنًى يَقْتَضِي الزِّيَادَةَ فِي الْحَدِّ لَا النُّقْصَانَ مِنْهُ، أَوِ الْقَدْرُ الَّذِي زَادُوهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ تَحْذِيرًا وَتَخْوِيفًا؛ لِأَنَّ مَنِ احْتَقَرَ الْعُقُوبَةَ إِذَا عَرَفَ أَنَّهَا غُلِّظَتْ فِي حَقِّهِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى ارْتِدَاعِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونُوا ارْتَدَعُوا بِذَلِكَ وَرَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَرَأَى عَلِيٌّ الرُّجُوعَ إِلَى الْحَدِّ الْمَنْصُوصِ وَأَعْرَضَ عَنِ الزِّيَادَةِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَدْرُ الزَّائِدُ كَانَ عِنْدَهُمْ خَاصًّا بِمَنْ تَمَرَّدَ وَظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الِاشْتِهَارِ بِالْفُجُورِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ: فَكَانَ عُمَرُ إِذَا أُتِيَ بِالرَّجُلِ الضَّعِيفِ تَكُونُ مِنْهُ الزَّلَّةُ جَلَدَهُ أَرْبَعِينَ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ جَلَدَ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِينَ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَوْ فَهِمَ الصَّحَابَةُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَدَّ فِي الْخَمْرِ حَدًّا مُعَيَّنًا لَمَا قَالُوا فِيهِ بِالرَّأْيِ كَمَا لَمْ يَقُولُوا بِالرَّأْيِ فِي غَيْرِهِ، فَلَعَلَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّهُ ضَرَبَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ فِي حَقِّ مَنْ ضَرَبَهُ انْتَهَى.
وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِالْحَدِّ الْمَعْلُومِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَرُجِّحَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الَّذِي اجْتَهَدُوا فِيهِ زِيَادَةً عَلَى الْحَدِّ إِنَّمَا هُوَ التَّعْزِيرُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِي الْحَدِّ الْمُعَيَّنِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا كَمَا سَبَقَ فِي تَقْرِيرِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَنْبَأَنَا عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُول: كَانَ الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ يَضْرِبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَنِعَالِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى خَشِيَ فَجَعَلَهُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، فَلَمَّا رَآهُمْ لَا يَتَنَاهَوْنَ جَعَلَهُ ثَمَانِينَ سَوْطًا وَقَالَ: هَذَا أَخَفُّ الْحُدُودِ.
وَالْجَمْعُ