للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لِمَ وَلَا كَيْفَ، كَمَا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فِي وُجُودِهِ أَيْنَ وَحَيْثُ (١) وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ (٢) وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الشَّرْعِ: فَمَا حَسَّنَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَمَا قَبَّحَهُ بِالذَّمِّ فَهُوَ قَبِيحٌ. وَأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَقْضِيهِ حُكْمًا وَأَسْرَارًا فِي مَصَالِحَ خَفِيَّةٍ اعْتَبَرَهَا كُلَّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ وَلَا حُكْمِ عَقْلٍ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، بَلْ بِحَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَنَافِذِ حُكْمِهِ، فَمَا أَطْلَعَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ عُرِفَ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ عِنْدَهُ وَاقِفٌ. فَلْيَحْذَرِ الْمَرْءُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ؛ فَإِنَّ مَآلَ ذَلِكَ إِلَى الْخَيْبَةِ.

قَالَ: وَلْنُنَبِّهْ هُنَا عَلَى مُغَلَّطَتَيْنِ:

الْأُولَى: وَقَعَ لِبَعْضِ الْجَهَلَةِ أَنَّ الْخَضِرَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى؛ تَمَسُّكًا بِهَذِهِ الْقِصَّةِ وَبِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِمَّنْ قَصَرَ نَظَرُهُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَمْ يَنْظُرْ فِيمَا خَصَّ اللَّهُ بِهِ مُوسَى مِنَ الرِّسَالَةِ، وَسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، وَإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ فِيهَا عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلَّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ شَرِيعَتِهِ وَمُخَاطَبُونَ بِحُكْمِ نُبُوَّتِهِ حَتَّى عِيسَى، وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي﴾ وَسَيَأْتِي فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى مَا فِيهِ كِفَايَةٌ.

قَالَ: وَالْخَضِرُ وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَيْسَ بِرَسُولٍ بِاتِّفَاقٍ، وَالرَّسُولُ أَفْضَلُ مِنْ نَبِيٍّ لَيْسَ بِرَسُولٍ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ فَرِسَالَةُ مُوسَى أَعْظَمُ وَأُمَّتُهُ أَكْثَرُ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَغَايَةُ الْخَضِرِ أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُوسَى أَفْضَلُهُمْ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْخَضِرَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ بَلْ وَلِيٌّ فَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَالصَّائِرُ إِلَى خِلَافِهِ كَافِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَتْ قِصَّةُ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى امْتِحَانًا لِمُوسَى؛ لِيَعْتَبِرَ.

الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ إِلَى سُلُوكِ طَرِيقَةٍ تَسْتَلْزِمُ هَدْمَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؛ فَقَالُوا: إِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْعَامَّةَ تَخْتَصُّ بِالْعَامَّةِ وَالْأَغْبِيَاءِ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ وَالْخَوَاصُّ فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى تِلْكَ النُّصُوصِ، بَلْ إِنَّمَا يُرَادُ مِنْهُمْ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى خَوَاطِرِهِمْ، لِصَفَاءِ قُلُوبِهِمْ عَنِ الْأَكْدَارِ وَخُلُوِّهَا عَنِ الْأَغْيَارِ. فَتَنْجَلِي لَهُمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْحَقَائِقُ الرَّبَّانِيَّةُ، فَيَقِفُونَ عَلَى أَسْرَارِ الْكَائِنَاتِ وَيَعْلَمُونَ الْأَحْكَامَ الْجُزْئِيَّاتِ فَيَسْتَغْنُونَ بِهَا عَنْ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْكُلِّيَّاتِ، كَمَا اتَّفَقَ لِلْخَضِرِ، فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِمَا يَنْجَلِي لَهُ مِنْ تِلْكَ الْعُلُومِ عَمَّا كَانَ عِنْدَ مُوسَى، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ زَنْدَقَةٌ وَكُفْرٌ ; لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا عُلِمَ مِنَ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجْرَى سُنَّتَهُ وَأَنْفَذَ كَلِمَتَهُ بِأَنَّ أَحْكَامَهُ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلِهِ السُّفَرَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ الْمُبَيِّنِينَ لِشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ﴾ وَقَالَ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ وَأَمَرَ بِطَاعَتِهِمْ فِي كُلِّ مَا جَاءُوا بِهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَالتَّمَسُّكِ بِمَا أَمَرُوا بِهِ فَإِنَّ فِيهِ الْهُدَى. وَقَدْ حَصَلَ الْعِلْمُ الْيَقِينُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ هُنَاكَ طَرِيقًا أُخْرَى يَعْرِفُ بِهَا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ غَيْرَ الطُّرُقِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنِ الرَّسُولِ فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ. قَالَ: وَهِيَ دَعْوَى تَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ نُبُوَّةٍ بَعْدَ نَبِيِّنَا ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ يَأْخُذُ عَنْ قَلْبِهِ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَأَنَّهُ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَقَدْ أَثْبَتَ


(١) الصواب عند أهل السنة وصف الله سبحانه بأنه في جهة العلو، وأنه فوق العرش، كما ذلك على ذلك نصوص الكتاب السنة، ويجوز عند أهل السنة السؤال هنه بأين، كما في صحيح مسلم أن النبي قال لمجارية: أين الله؟ قالت في السماء، الحديث.
(٢) هذا هو قول بعض أهل السنة، وذهب بعض المحققين منهم إلى أن العقل يحسن ويطيح، لما فطر الله عليه العباد من معرفة الحسن والقبيح. وقد جاءت الشرائع الإلهية تأمر بالحسن وتنهى عن القبيح، ولكن لا يتراب الثواب والعقاب على ذلك إلا بعد بلوغ الشرع، كما حلق ذلك العلامة ابن القيم في (مفتاح دار السعادة)، وهذا هو الصواب. والله أعلم.