للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

مِنْهُ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، أَوْ أَعْلَمَ مِنْهُ فِي أَمْرٍ مَخْصُوصٍ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ نَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ. وَيَنْحَلُّ بِهَذَا التَّقْرِيرِ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ.

وَمِنْ أَوْضَحِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ قَوْلُهُ: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ وَيَنْبَغِي اعْتِقَادُ كَوْنِهِ نَبِيًّا؛ لِئَلَّا يَتَذَرَّعُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، حَاشَا وَكَلَّا.

وَتَعَقَّبَ ابْنُ الْمُنِيرِ عَلَى ابْنِ بَطَّالٍ إِيرَادَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرًا مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الدَّعْوَى فِي الْعِلْمِ، وَالْحَثِّ عَلَى قَوْلِ الْعَالِمِ، لَا أَدْرِي بِأَنَّ سِيَاقَ مِثْلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ لَائِقٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ Object. قَالَ: وَلَيْسَ قَوْلُ مُوسَى Object أَنَا أَعْلَمُ كَقَوْلِ آحَادِ النَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَا نَتِيجَةُ قَوْلِهِ كَنَتِيجَةِ قَوْلِهِمْ؛ فَإِنَّ نَتِيجَةَ قَوْلِهِمُ الْعُجْبُ وَالْكِبْرُ، وَنَتِيجَةَ قَوْلِهِ الْمَزِيدُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَى التَّوَاضُعِ وَالْحِرْصُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ. وَاسْتِدْلَالُهُ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِالْعَقْلِ عَلَى الشَّرْعِ خَطَأً ; لِأَنَّ مُوسَى إِنَّمَا اعْتَرَضَ بِظَاهِرِ الشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ الِاعْتِرَاضِ بِالشَّرْعِ عَلَى مَا لَا يَسُوغُ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَقِيمًا فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ: (فِي مِكْتَلٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا) بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَيَوْمَهُمَا بِالنَّصْبِ عَلَى إِرَادَةِ سَيْرِ جَمِيعِهِ، وَنَبَّهَ بَعْضُ الْحُذَّاقِ عَلَى أَنَّهُ مَقْلُوبٌ. وَأَنَّ الصَّوَابَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ فَلَمَّا أَصْبَحَ لِأَنَّهُ لَا يُصْبِحُ إِلَّا عَنْ لَيْلٍ، انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَصْبَحَ أَيْ مِنَ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَلِي الْيَوْمَ الَّذِي سَارَا جَمِيعَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (أَنَّى) أَيْ: كَيْفَ بِأَرْضِكِ السَّلَامُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي التَّفْسِيرِ هَلْ بِأَرْضِي مِنْ سَلَامٍ؟، أَوْ مِنْ أَيْنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا﴾ وَالْمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ فِيهَا؟ وَكَأَنَّهَا كَانَتْ بِلَادَ كُفْرٍ، أَوْ كَانَتْ تَحِيَّتُهُمْ بِغَيْرِ السَّلَامِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ دُونِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ، إِذْ لَوْ كَانَ الْخَضِرُ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ لَعَرَفَ مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ.

قَوْلُهُ: (فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ) أَيْ: مُوسَى وَالْخَضِرُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فَتَى مُوسَى - وَهُوَ يُوشَعُ - لِأَنَّهُ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْأَصَالَةِ.

قَوْلُهُ: (فَكَلَّمُوهُمْ) ضَمَّ يُوشَعَ مَعَهُمَا فِي الْكَلَامِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي كَلَامَ التَّابِعِ.

قَوْلُهُ: (فَحَمَلُوهُمَا) يُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي يَمْشِيَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يُوشَعُ لَمْ يَرْكَبْ مَعَهُمَا لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ لَهُ ذِكْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ: (فَجَاءَ عُصْفُورٌ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، قِيلَ هُوَ الصُّرَدُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَفِي الرِّحْلَةِ لِلْخَطِيبِ أَنَّهُ الْخُطَّافُ.

قَوْلُهُ: (مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ) لَفْظُ النَّقْصِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ النَّقْصُ، فَقِيلَ مَعْنَاهُ لَمْ يَأْخُذْ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ حَسَنٌ. وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ وَاقِعًا عَلَى الْآخِذِ لَا عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَعْلُومُ بِدَلِيلِ دُخُولِ حَرْفِ التَّبْعِيضِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الْقَائِمَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لَا تَتَبَعَّضُ، وَالْمَعْلُومُ هُوَ الَّذِي يَتَبَعَّضُ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ نَقْصَ الْعُصْفُورِ لَا يَنْقُصُ الْبَحْرَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَمَا قِيلَ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ … بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

أَيْ: لَيْسَ فِيهِمْ عَيْبٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَفْيَ النَّقْصِ أُطْلِقَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ. وَقِيلَ إِلَّا بِمَعْنَى وَلَا، أَيْ: وَلَا كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ هُنَا تَجَوَّزَ لِقَصْدِهِ التَّمَسُّكَ وَالتَّعْظِيمَ، إِذْ لَا نَقْصَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَلَا نِهَايَةَ لِمَعْلُومَاتِهِ. وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظٍ أَحْسَنَ سِيَاقًا مِنْ هَذَا وَأَبْعَدَ إِشْكَالًا، فَقَالَ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلَّفْظِ الَّذِي وَقَعَ هُنَا، قَالَ: وَفِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ فِي مُلْكِهِ مَا يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ مِمَّا يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ، فَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي أَفْعَالِهِ وَلَا مُعَارَضَةَ لِأَحْكَامِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ، فَإِنَّ إِدْرَاكَ الْعُقُولِ لِأَسْرَارِ الرُّبُوبِيَّةِ قَاصِرٌ فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَى حُكْمِهِ