وَكَذَا السِّحْرُ وَالْقَذْفُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكُ الصَّلَاةِ تَكَاسُلًا وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ وَالتَّعْرِيضُ بِالزِّنَا.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ حَقُّ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْعَصْرِيِّينَ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْحَدِّ بِالْمُقَدَّرَاتِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهَا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ أَوَّلَ الْأَمْرِ كَانَ يُطْلِقُ الْحَدَّ عَلَى كُلِّ مَعْصِيَةٍ كَبُرَتْ أَوْ صَغُرَتْ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ وَيَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، قَالَ: وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّا إِذَا أَجَزْنَا فِي كُلِّ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَنْ يُزَادَ عَلَى الْعَشْرِ لَمْ يَبْقَ لَنَا شَيْءٌ يَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا الْحُرُمَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ فِيهَا الزِّيَادَةُ هُوَ مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وَأَصْلُ التَّعْزِيرِ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ فِيمَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فَلَا يَبْقَى لِخُصُوصِ الزِّيَادَةِ مَعْنًى.
قُلْتُ: وَالْعَصْرِيُّ الْمُشَارُ إِلَيْهِ أَظُنُّهُ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَقَدْ تَقَلَّدَ صَاحِبُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ الْمَقَالَةَ الْمَذْكُورَةَ فَقَالَ: الصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُدُودِ هُنَا الْحُقُوقُ الَّتِي هِيَ أَوَامِرُ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ بِقولِهِ: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وَفِي أُخْرَى: ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ وَقَالَ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا﴾ وَقَالَ: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا﴾ قَالَ: فَلَا يُزَادُ عَلَى الْعَشْرِ فِي التَّأْدِيبَاتِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِمَعْصِيَةٍ كَتَأْدِيبِ الْأَبِ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَرَاتِبِ الْمَعَاصِي، فَمَا وَرَدَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى فِي الْأَصْلِ، وَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَقْدِيرٌ فَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً جَازَتِ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَدِّ كَمَا فِي الْآيَاتِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا وَالْتَحَقَ بِالْمُسْتَثْنَى، وَإِنْ كَانَ صَغِيرَةً فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِمَنْعِ الزِّيَادَةِ، فَهَذَا يَدْفَعُ إِيرَادَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ عَلَى الْعَصْرِيِّ الْمَذْكُورِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالتَّعْزِيرِ بِلَفْظِ: لَا تُعَزِّرُوا فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَدْلُولِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَخَذَ بِظَاهِرِهِ اللَّيْثُ، وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِسْحَاقُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشْرِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْلُغُ أَدْنَى الْحُدُودِ، وَهَلِ الِاعْتِبَارُ بِحَدِّ الْحُرِّ أَوِ الْعَبْدِ؟ قَوْلَانِ، وَفِي قَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ يُسْتَنْبَطُ كُلُّ تَعْزِيرٍ مِنْ جِنْسِ حَدِّهِ وَلَا يُجَاوِزُهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الْأَوْزَاعِيِّ: لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدُّ وَلَمْ يُفَصِّلْ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: هُوَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي ثَوْرٍ.
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى: لَا تَجْلِدْ فِي التَّعْزِيرِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ، وَعَنْ عُثْمَانَ ثَلَاثِينَ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ بَلَغَ بِالسَّوْطِ مِائَةً، وَكَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعَطَاءٍ: لَا يُعَزَّرُ إِلَّا مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ، وَمَنْ وَقَعَ مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً مَعْصِيَةٌ لَا حَدَّ فِيهَا فَلَا يُعَزَّرُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبْلُغُ أَرْبَعِينَ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُزَادُ عَلَى خَمْسٍ وَتِسْعِينَ جَلْدَةً، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ: لَا يَبْلُغُ ثَمَانِينَ، وَأَجَابُوا عَنِ الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ، وَمِنْهَا قَصْرُهُ عَلَى الْجَلْدِ.
وَأَمَّا الضَّرْبُ بِالْعَصَا مَثَلًا وَبِالْيَدِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ لَكِنْ لَا يُجَاوِزُ أَدْنَى الْحُدُودِ، وَهَذَا رَأْيُ الْإِصْطَخْرِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْوَارِدَةِ بِلَفْظِ الضَّرْبِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ دَلَّ عَلَى نَسْخِهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ قَالَ بِهِ بَعْضُ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَحَدِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَمِنْهَا مُعَارَضَةُ الْحَدِيثِ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يُخَالِفُ الْحُدُودَ.
وَحَدِيثُ الْبَابِ يَقْتَضِي تَحْدِيدَهُ بِالْعَشْرِ فَمَا دُونَهَا فَيَصِيرُ مِثْلَ الْحَدِّ، وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ شُرِعَ لِلرَّدْعِ؛ فَفِي النَّاسِ مَنْ يَرْدَعُهُ الْكَلَامُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرْدَعُهُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَعْزِيرُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُزَادُ فِيهِ، وَلَا يُنْقَصُ فَاخْتَلَفَا، وَبِأَنَّ التَّخْفِيفَ وَالتَّشْدِيدَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ وَبِأَنَّ الرَّدْعَ لَا يُرَاعَى فِي الْأَفْرَادِ بِدَلِيلِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَرْدَعُهُ الْحَدُّ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُجْمَعُ