رِضَاهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ فَإِذَا رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ بِأَخْذِ الدِّيَةِ لَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَخْذَ الدِّيَةِ لَمْ يَكُنْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلْ كَانَ الْقِصَاصُ مُتَحَتِّمًا، فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِمَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الدِّيَةِ إِذَا رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ حَدِيثَيْنِ.
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مُرْسَلًا، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَهِيَ شَاذَّةٌ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ) كَذَا تَحَوَّلَ إِلَى طَرِيقِ حَرْبِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ فِي الطَّرِيقَيْنِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ هُنَا عَلَى لَفْظِ حَرْبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَفْظُ شَيْبَانَ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَطَرِيقُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَجَاءٍ هَذِهِ وَصَلَهَا الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَلِيٍّ السِّيرَافِيِّ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَ فِي اللُّقَطَةِ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مُصَرِّحًا بِالتَّحْدِيثِ فِي جَمِيعِ السَّنَدِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ) الْهَاءُ فِي أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.
قَوْلُهُ: (قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ خُزَاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذَا الرَّجُلَ مِنْ هُذَيْلٍ، وَإِنِّي عَاقِلُهُ، وَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ كَمَا أَوْرَدْتُهُ فِي بَابِ لَا يُعْضَدُ شَجَرُ الْحَرَمِ مِنْ أَبْوَابِ جَزَاءِ الصَّيْدِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ.
فَأَمَّا خُزَاعَةُ فَتَقَدَّمَ نَسَبُهُمْ فِي أَوَّلِ مَنَاقِبِ قُرَيْشٍ، وَأَمَّا بَنُو لَيْثٍ فَقَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ يُنْسَبُونَ إِلَى لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَأَمَّا هُذَيْلٌ فَقَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ يُنْسَبُونَ إِلَى هُذَيْلٍ وَهُمْ بَنُو مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ، وَكَانَتْ هُذَيْلٌ وَبَكْرٌ مِنْ سُكَّانِ مَكَّةَ وَكَانُوا فِي ظَوَاهِرِهَا خَارِجِينَ مِنَ الْحَرَمِ، وَأَمَّا خُزَاعَةُ فَكَانُوا غَلَبُوا عَلَى مَكَّةَ وَحَكَمُوا فِيهَا ثُمَّ أُخْرِجُوا مِنْهَا فَصَارُوا فِي ظَاهِرِهَا، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ حُلَفَاءَ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ إِلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، وَكَانَ بَنُو بَكْرٍ حُلَفَاءَ قُرَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ كِتَابِ الْمَغَازِي.
وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ أَنَّ اسْمَ الْقَاتِلِ مِنْ خُزَاعَةَ خِرَاشُ بِمُعْجَمَتَيْنِ ابْنُ أُمَيَّةَ الْخُزَاعِيُّ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ اسْمُهُ أَحْمَرَ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ مِنْ بَنِي لَيْثٍ لَمْ يُسَمَّ وَكَذَا الْقَاتِلُ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْخُزَاعِيَّ الْمَقْتُولَ اسْمُهُ مُنَبِّهٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَنْدَرٍ الْأَسْلَمِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ كَانَ شُجَاعًا وَكَانَ إِذَا نَامَ غَطَّ فَإِذَا طَرَقَهُمْ شَيْءٌ صَاحُوا بِهِ فَيَثُورُ مِثْلَ الْأَسَدِ، فَغَزَاهُمْ قَوْمٌ مِنْ هُذَيْلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الْأَثْوَعِ، وَهُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: لَا تَعْجَلُوا حَتَّى أَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ أَحْمَرُ فِيهِمْ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَمَعَ فَإِذَا غَطِيطُ أَحْمَرَ فَمَشَى إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَ السَّيْفَ فِي صَدْرِهِ فَقَتَلَهُ وَأَغَارُوا عَلَى الْحَيِّ.
فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ وَكَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ أَتَى ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيُّ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، فَرَأَتْهُ خُزَاعَةُ فَعَرَفُوهُ فَأَقْبَلَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ فَقَالَ أَفْرِجُوا عَنِ الرَّجُلِ فَطَعَنَهُ بِالسَّيْفِ فِي بَطْنِهِ فَوَقَعَ قَتِيلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ، وَلَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: إِنَّ خِرَاشًا لَقَتَّالٌ يَعِيبُهُ بِذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهَذَا قِصَّةُ الْهُذَلِيِّ، وَأَمَّا قِصَّةُ الْمَقْتُولِ مِنْ بَنِي لَيْثٍ فَكَأَنَّهَا أُخْرَى، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ الْمَقْتُولَ مِنْ بَنِي لَيْثٍ اسْمُهُ جُنْدَبُ بْنُ الْأَدْلَعِ، وَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ