يُبَايِعَ لَهُ أَهْلُ الشَّامِ فَاعْتَلَّ بِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا وَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الِاقْتِصَاصِ مِنْ قَتَلَتِهِ، وَأَنَّهُ أَقْوَى النَّاسِ عَلَى الطَّلَبِ بِذَلِكَ، وَيَلْتَمِسُ مِنْ عَلِيٍّ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ يُبَايِعَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلِيٌّ يَقُولُ: ادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ وَحَاكِمْهُمْ إِلَيَّ أَحْكُمْ فِيهِمْ بِالْحَقِّ، فَلَمَّا طَالَ الْأَمْرُ خَرَجَ عَلِيٌّ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ طَالِبًا قِتَالَ أَهْلِ الشَّامِ، فَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ قَاصِدًا إِلَى قِتَالِهِ، فَالْتَقَيَا بِصِفِّينَ فَدَامَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا أَشْهُرًا.
وَكَادَ أَهْلُ الشَّامِ أَنْ يَنْكَسِرُوا فَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ عَلَى الرِّمَاحِ وَنَادَوْا نَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَتَرَكَ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ عَلِيٍّ وَخُصُوصًا الْقُرَّاءَ الْقِتَالَ بِسَبَبِ ذَلِكَ تَدَيُّنًا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ الْآيَةَ، فَرَاسَلُوا أَهْلَ الشَّامِ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْكُمْ وَحَكَمًا مِنَّا، وَيَحْضُرُ مَعَهُمَا مَنْ لَمْ يُبَاشِرِ الْقِتَالَ فَمَنْ رَأَوُا الْحَقَّ مَعَهُ أَطَاعُوهُ، فَأَجَابَ عَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ تِلْكَ الطَّائِفَةُ الَّتِي صَارُوا خَوَارِجَ وَكَتَبَ عَلِيٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ كِتَابَ الْحُكُومَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ: هَذَا مَا قَضَى عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَامْتَنَعَ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: اكْتُبُوا اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ، فَأَجَابَ عَلِيٌّ إِلَى ذَلِكَ، فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الْخَوَارِجُ أَيْضًا.
ثُمَّ انْفَصَلَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنْ يَحْضُرَ الْحَكَمَانِ وَمَنْ مَعَهُمَا بَعْدَ مُدَّةٍ عَيَّنُوهَا فِي مَكَانٍ وَسَطٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَيَرْجِعُ الْعَسْكَرَانِ إِلَى بِلَادِهِمْ إِلَى أَنْ يَقَعَ الْحُكْمُ، فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الشَّامِ، وَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى الْكُوفَةِ، فَفَارَقَهُ الْخَوَارِجُ وَهُمْ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، وَقِيلَ: كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَقِيلَ: سِتَّةُ آلَافٍ، وَنَزَلُوا مَكَانًا يُقَالُ لَهُ: حَرُورَاءُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَرَاءَيْنِ الْأُولَى مَضْمُومَةٌ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لَهُمُ: الْحَرُورِيَّةُ، وَكَانَ كَبِيرُهُمْ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ الْكَوَّاءِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَعَ الْمَدِّ الْيَشْكُرِيَّ، وَشَبَثَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ التَّمِيمِيَّ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ فَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَعَهُ.
ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ، فَأَطَاعُوهُ وَدَخَلُوا مَعَهُ الْكُوفَةَ مَعَهُمْ رَئِيسَاهُمُ الْمَذْكُورَانِ، ثُمَّ أَشَاعُوا أَنَّ عَلِيًّا تَابَ مِنَ الْحُكُومَةِ وَلِذَلِكَ رَجَعُوا مَعَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَخَطَبَ وَأَنكَرَ ذَلِكَ، فَتَنَادَوْا مِنْ جَوَانِبِ الْمَسْجِدِ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، فَقَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثَةٌ: أَنْ لَا نَمْنَعَكُمْ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَلَا مِنْ رِزْقِكُمْ مِنَ الْفَيْءِ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ مَا لَمْ تُحْدِثُوا فَسَادًا.
وَخَرَجُوا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إِلَى أَنِ اجْتَمَعُوا بِالْمَدَائِنِ، فَرَاسَلَهُمْ فِي الرُّجُوعِ، فَأَصَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاعِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ لِرِضَاهُ بِالتَّحْكِيمِ وَيَتُوبَ، ثُمَّ رَاسَلَهُمْ أَيْضًا فَأَرَادُوا قَتْلَ رَسُولِهِ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ مُعْتَقَدَهُمْ يُكَفَّرُ وَيُبَاحُ دَمُهُ وَمَالُهُ وَأَهْلُهُ، وَانْتَقَلُوا إِلَى الْفِعْلِ فَاسْتَعْرَضُوا النَّاسَ فَقَتَلُوا مَنِ اجْتَازَ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَرَّ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَكَانَ وَالِيًا لِعَلِيٍّ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَمَعَهُ سُرِّيَّةٌ وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلُوهُ وَبَقَرُوا فِي سُرِّيَّتِهِ عَنْ وَلَدٍ، فَبَلَغَ عَلِيًّا فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي الْجَيْشِ الَّذِي كَانَ هَيَّأَهُ لِلْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ.
فَأَوْقَعَ بِهِمْ بِالنَّهْرَوَانِ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا دُونَ الْعَشَرَةِ وَلَا قُتِلَ مِمَّنْ مَعَهُ إِلَّا نَحْوُ الْعَشَرَةِ، فَهَذَا مُلَخَّصُ أَوَّلِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ انْضَمَّ إِلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ مَالَ إِلَى رَأْيِهِمْ فَكَانُوا مُخْتَفِينَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ حَتَّى كَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ الَّذِي قَتَلَ عَلِيًّا بَعْدَ أَنْ دَخَلَ عَلِيٌّ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ صُلْحُ الْحَسَنِ، وَمُعَاوِيَةَ ثَارَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ عَسْكَرُ الشَّامِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: النُّجَيْلَةُ، ثُمَّ كَانُوا مُنْقَمِعِينَ فِي إِمَارَةِ زِيَادٍ وَابْنِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى الْعِرَاقِ طُولَ مُدَّةِ مُعَاوِيَةَ وَوَلَدِهِ يَزِيدَ.
وَظَفِرَ زِيَادٌ وَابْنُهُ مِنْهُمْ بِجَمَاعَةٍ فَأَبَادَهُمْ بَيْنَ قَتْلٍ وَحَبْسٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ وَوَقَعَ الِافْتِرَاقُ وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَطَاعَهُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ إِلَّا بَعْضَ أَهْلِ الشَّامِ ثَارَ مَرْوَانُ فَادَّعَى الْخِلَافَةَ وَغَلَبَ عَلَى جَمِيعِ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ، فَظَهَرَ الْخَوَارِجُ حِينَئِذٍ بِالْعِرَاقِ مَعَ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ، وَبِالْيَمَامَةِ مَعَ نَجْدَةَ بْنِ عَامِرٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute