وَزَادَ نَجْدَةُ عَلَى مُعْتَقَدِ الْخَوَارِجِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَخْرُجْ وَيُحَارِبِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَوِ اعْتَقَدَ مُعْتَقَدَهُمْ، وَعَظُمَ الْبَلَاءُ بِهِمْ وَتَوَسَّعُوا فِي مُعْتَقَدِهِمُ الْفَاسِدِ، فَأَبْطَلُوا رَجْمَ الْمُحْصَنِ، وَقَطَعُوا يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْإِبِطِ، وَأَوْجَبُوا الصَّلَاةَ عَلَى الْحَائِضِ فِي حَالِ حَيْضِهَا، وَكَفَّرُوا مَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِنْ كَانَ قَادِرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا فَقَدِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً، وَحُكْمُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْكَافِرِ، وَكَفُّوا عَنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ مُطْلَقًا، وَفَتَكُوا فِيمَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُطْلَقًا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ مِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو أَوَّلًا ثُمَّ يَفْتِكُ، وَلَمْ يَزَلِ الْبَلَاءُ بِهِمْ يَزِيدُ إِلَى أَنْ أُمِّرَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَطَاوَلَهُمْ حَتَّى ظَفِرَ بِهِمْ وَتَقَلَّلَ جَمْعُهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ مِنْهُمْ بَقَايَا فِي طُولِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَصَدْرِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْمَغْرِبَ.
وَقَدْ صَنَّفَ فِي أَخْبَارِهِمْ أَبُو مِخْنَفٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ النُّونِ بَعْدَهَا فَاءٌ، وَاسْمُهُ لُوطُ بْنُ يَحْيَى كِتَابًا لَخَصَّهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَصَنَّفَ فِي أَخْبَارِهِمْ أَيْضًا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ كِتَابًا، وَمُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ أَحَدُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ خَارِجَ الصَّحِيحِ كِتَابًا كَبِيرًا، وَجَمَعَ أَخْبَارَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ لَكِنْ بِغَيْرِ أَسَانِيدَ بِخِلَافِ الْمَذْكُورِينَ قَبْلَهُ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: الْخَوَارِجُ صِنْفَانِ؛ أَحَدُهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ عُثْمَانَ، وَعَلِيًّا وَأَصْحَابَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَكُلَّ مَنْ رَضِيَ بِالتَّحْكِيمِ كُفَّارٌ، وَالْآخَرُ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ أَبَدًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلِ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ مُفَرَّعٌ عَنِ الصِّنْفِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى تَكْفِيرِ أُولَئِكَ كَوْنُهُمْ أَذْنَبُوا فِيمَا فَعَلُوهُ بِزَعْمِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: ذَهَبَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ مِنَ الْخَوَارِجِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَتَى صَغِيرَةً عُذِّبَ بِغَيْرِ النَّارِ، وَمَنْ أَدْمَنَ عَلَى صَغِيرَةٍ فَهُوَ كَمُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ فِي التَّخْلِيدِ فِي النَّارِ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَا فِي مُعْتَقَدِهِمُ الْفَاسِدِ فَأَنْكَرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَقَالَ: الْوَاجِبُ صَلَاةٌ بِالْغَدَاةِ وَصَلَاةٌ بِالْعَشِيِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ نِكَاحَ بِنْتِ الِابْنِ وَبِنْتِ الْأَخِ وَالْأُخْتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ يُوسُفَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ وَلَوِ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ.
وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْمَقَالَاتِ: عِدَّةُ فِرَقِ الْخَوَارِجِ عِشْرُونَ فِرْقَةً، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: أَسْوَؤُهُمْ حَالًا الْغُلَاةُ الْمَذْكُورُونَ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْحَقِّ الْإِبَاضِيَّةُ، وَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ بِالْمَغْرِبِ، وَقَدْ وَرَدَتْ بِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَصْلِ حَالِ الْخَوَارِجِ أَخْبَارٌ جِيَادٌ مِنْهَا: مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَشَرَ أَهْلُ الشَّامِ الْمَصَاحِفَ بِمَشُورَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ كَادَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنْ يَغْلِبُوهُمْ هَابَ أَهْلُ الشَّامِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّحْكِيمِ، وَرَجَعَ كُلٌّ إِلَى بَلَدِهِ إِلَى أَنِ اجْتَمَعَ الْحَكَمَانِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ وَافْتَرَقَا عَنْ غَيْرِ شَيْءٍ، فَلَمَّا رَجَعُوا خَالَفَتِ الْحَرُورِيَّةُ عَلِيًّا وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: لَمَّا وَقَعَ الرِّضَا بِالتَّحْكِيمِ وَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى الْكُوفَةِ اعْتَزَلَتِ الْخَوَارِجُ بِحَرُورَاءَ فَبَعَثَ لَهُمْ عَلِيٌّ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ، فَلَمَّا رَجَعُوا جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ أَقْرَرْتَ لَهُمْ بِالْكُفْرِ لِرِضَاكَ بِالتَّحْكِيمِ، فَخَطَبَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ، فَتَنَادَوْا مِنْ جَوَانِبِ الْمَسْجِدِ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ رُءُوسَهُمْ حِينَئِذٍ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا بِالنَّهْرَوَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ حِصْنٍ الطَّائِيُّ، وَحُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ، فَاتَّفَقُوا عَلَى تَأْمِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَسَيَأْتِي كَثِيرٌ مِنْ أَسَانِيدِ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ بَعْدُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ إِنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي حُكْمِ الْخَوَارِجِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَحُكْمِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ كَحُكْمِ أَهْلِ الْبَغْيِ، وَرَجَّحَ الرَّافِعِيُّ الْأَوَّلَ، وَلَيْسَ الَّذِي قَالَهُ مُطَّرِدًا فِي كُلِّ خَارِجِيٍّ؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَالثَّانِي مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْمُلْكِ