آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ الْحَدِيثَ، وَالْمُرَادُ بِهِ اقْتِرَابُ السَّاعَةِ قَطْعًا.
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمُرَادُ بِتَقَارُبِ الزَّمَانِ نَقْصُ السَّاعَاتِ وَالْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي انْتَهَى.
وَمُرَادُهُ بِالنَّقْصِ سُرْعَةُ مُرُورِهَا، وَذَلِكَ قُرْبَ قِيَامِ السَّاعَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ حَتَّى تَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمْعَةِ وَالْجُمْعَةُ كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ وَالسَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ، وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالزَّمَانِ الْمَذْكُورِ زَمَانُ الْمَهْدِيِّ عِنْدَ بَسْطِ الْعَدْلِ وَكَثْرَةِ الْأَمْنِ وَبَسْطِ الْخَيْرِ وَالرِّزْقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الزَّمَانَ يُسْتَقْصَرُ لِاسْتِلْذَاذِهِ فَتَتَقَارَبُ أَطْرَافُهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَمْ تَكَدْ إِلَخْ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى غَلَبَةِ الصِّدْقِ عَلَى الرُّؤْيَا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَا يَصْدُقُ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْكَذِبِ عَنْهَا أَصْلًا لِأَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ الدَّاخِلَ عَلَى كَادَ يَنْفِي قُرْبَ حُصُولِهِ، وَالنَّافِي لِقُرْبِ حُصُولِ الشَّيْءِ أَدَلُّ عَلَى نَفْيِهِ نَفْسَهُ؛ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: وَالْمُرَادُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بِآخِرِ الزَّمَانِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زَمَانُ الطَّائِفَةِ الْبَاقِيَةِ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ، فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَا نَصُّهُ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَيَمْكُثُ فِي النَّاسِ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَهُ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَكَانَ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ أَحْسَنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَالًا بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَأَصْدَقَهُمْ أَقْوَالًا، فَكَانَتْ رُؤْيَاهُمْ لَا تَكْذِبُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عَقِبَ هَذَا: وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ صِدْقُهُ تَنَوَّرَ قَلْبُهُ وَقَوِيَ إِدْرَاكُهُ فَانْتَقَشَتْ فِيهِ الْمَعَانِي عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ غَالِبُ حَالِهِ الصِّدْقَ فِي يَقَظَتِهِ اسْتَصْحَبَ ذَلِكَ فِي نَوْمِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا صِدْقًا وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَاذِبِ وَالْمُخَلِّطِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ قَلْبُهُ وَيُظْلِمُ فَلَا يَرَى إِلَّا تَخْلِيطًا وَأَضْغَاثًا، وَقَدْ يَنْدُرُ الْمَنَامُ أَحْيَانًا فَيَرَى الصَّادِقُ مَا لَا يَصِحُّ وَيَرَى الْكَاذِبُ مَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّ الْأَغْلَبَ الْأَكْثَرَ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَم.
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الرُّؤْيَا لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ إِنْ صَدَرَتْ مِنْ مُسْلِمٍ صَادِقٍ صَالِحٍ ثَمَّ، وَمِنْ ثَمَّ قَيَّدَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ فَإِنَّهُ جَاءَ مُطْلَقًا مُقْتَصِرًا عَلَى الْمُسْلِمِ فَأَخْرَجَ الْكَافِرَ، وَجَاءَ مُقَيَّدًا بِالصَّالِحِ تَارَةً وَبِالصَّالِحَةِ وَبِالْحَسَنَةِ وَبِالصَّادِقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ حَالُهُ حَالَ النَّبِيِّ فَيُكَرَّمُ بِمَا أُكْرِمَ بِهِ النَّبِيُّ وَهُوَ الِاطِّلَاعُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ، فَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ وَالْكَاذِبُ وَالْمُخَلِّطُ وَإِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاهُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا مِنَ النُّبُوَّةِ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ مَا يَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ نُبُوَّةً، فَقَدْ يَقُولُ الْكَاهِنُ كَلِمَةَ حَقٍّ وَقَدْ يُحَدِّثُ الْمُنَجِّمُ فَيُصِيبُ لَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى النُّدُورِ وَالْقِلَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: مَعْنَى كَوْنِ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَا تَكَادُ تَكْذِبُ أَنَّهَا تَقَعُ غَالِبًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْبِيرٍ فَلَا يَدْخُلُهَا الْكَذِبُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا قَدْ يَخْفَى تَأْوِيلُهَا فَيَعْبُرُهَا الْعَابِرُ فَلَا تَقَعُ كَمَا قَالَ فَيَصْدُقُ دُخُولُ الْكَذِبِ فِيهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، قَالَ: وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِآخِرِ الزَّمَانِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَكُونُ غَرِيبًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، فَيَقِلُّ أَنِيسُ الْمُؤْمِنِ وَمُعِينُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيُكَرَّمُ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ.
قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ هَذَا سَبَبُ اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فِي عَدَدِ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ فَيُقَالُ: كُلَّمَا قَرُبَ الْأَمْرُ وَكَانَتِ الرُّؤْيَا أَصْدَقَ حُمِلَ عَلَى أَقَلِّ عَدَدٍ وَرَدَ، وَعَكْسُهُ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَتَنْبَغِي الْإِشَارَةُ إِلَى هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ وَحَاصِلُ مَا اجْتَمَعَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ آخِرَ الزَّمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ؛ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ بِأُمُورِ الدِّيَانَةِ لَمَّا يَذْهَبُ غَالِبُهُ بِذَهَابِ غَالِبِ أَهْلِهِ وَتَعَذَّرَتِ النُّبُوَّةُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute