قَوْلُهُ: (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا. . . إِلَخْ) تَرْجَمَ بِلَفْظِ ثَالِثِ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَفِيهِ خَمْسَةُ أَحَادِيثَ:
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ) هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، وَشَقِيقٌ هُوَ أَبُو وَائِلٍ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ كُوفِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (سِبَابُ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَمُوَحَّدَتَيْنِ وَتَخْفِيفٍ مَصْدَرٌ، يُقَالُ: سَبَّهُ يَسُبُّهُ سَبًّا وَسِبَابًا، وَهَذَا الْمَتْنُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَّلَ الْكِتَابِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، وَفِيهِ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ إِطْلَاقِ الْكُفْرِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِ وَأَنَّ أَقْوَى مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ لِيَنْزَجِرَ السَّامِعُ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّشْبِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْكَافِرِ، كَمَا ذَكَرُوا نَظِيرَهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ. وَوَرَدَ لِهَذَا الْحَدِيثِ سَبَبٌ أَخْرَجَهُ الْبَغَوِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقْرِنٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ عُرِفَ بِالْبَذَاءِ وَمُشَاتَمَةِ النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ زَادَ الْبَغَوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ لَا أُسَابُّ رَجُلًا.
الْحَدِيثُ الثَّانِي قَوْلُهُ: (وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ)؛ أَيِ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
قَوْلُهُ: (لَا تَرْجِعُونَ بَعْدِي) كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ، وَلِلْبَاقِينَ: لَا تَرْجِعُوا بِصِيغَةِ النَّهْيِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ.
قَوْلُهُ: (كُفَّارًا) تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَجُمْلَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى تَاسِعٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ سَتْرُ الْحَقِّ وَالْكُفْرُ لُغَةً السَّتْرُ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيُعِينَهُ، فَلَمَّا قَاتَلَهُ كَأَنَّهُ غَطَّى عَلَى حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ عَلَيْهِ. وَعَاشِرٌ وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَذْكُورُ يُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ، لِأَنَّ مَنِ اعْتَادَ الْهُجُومَ عَلَى كِبَارِ الْمَعَاصِي جَرَّهُ شُؤْمُ ذَلِكَ إِلَى أَشَدِّ مِنْهَا فَيُخْشَى أَنْ لَا يُخْتَمَ لَهُ بِخَاتِمَةِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ لُبْسِ السِّلَاحِ، يَقُولُ: كَفَرَ فَوْقَ دِرْعِهِ؛ إِذَا لَبِسَ فَوْقَهَا ثَوْبًا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تَفْعَلُوا بِالْمُؤْمِنِينَ مَا تَفْعَلُونَ بِالْكُفَّارِ، وَلَا تَفْعَلُوا بِهِمْ مَا لَا يَحِلُّ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهُ حَرَامًا. قُلْتُ: وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ غَالِبَ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ بِأَنَّ رَاوِيَ الْخَبَرِ - وَهُوَ أَبُو بَكْرَةَ - فَهِمَ خِلَافَ ذَلِكَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ فَهْمَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ تَوَقُّفِهِ عَنِ الْقِتَالِ وَاحْتِجَاجِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَوَقُّفُهُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ لِمَا يَحْتَمِلُهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ يَعْتَقِدَ حَقِيقَةَ كُفْرِ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ وَلَا امْتِثَالِ أَوَامِرِهِمْ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِمْ حَقِيقَتَهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ: (يَضْرِبْ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) بِجَزْمِ يَضْرِبُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ، وَبِرَفْعِهِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَوْ يُجْعَلُ حَالًا؛ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَقْوَى الْحَمْلُ عَلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ وَيَحْتَاجُ إِلَى التَّأْوِيلِ بِالْمُسْتَحِلِّ مَثَلًا، وَعَلَى الثَّانِي لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (ابْنُ سِيرِينَ) هُوَ مُحَمَّدٌ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ) هُوَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ كَمَا وَقَعَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَابِ الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْخُطْبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ: أَبْشَارُكُمْ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُعْجَمَةٍ جَمْعُ بَشَرَةٍ وَهُوَ ظَاهِرُ جِلْدِ الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا الْبَشَرُ الَّذِي هُوَ الْإِنْسَانُ فَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ الْهَاءُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَقَوْلُهُ: رُبَّ مُبَلَّغٍ بِفَتْحِ اللَّامِ الثَّقِيلَةِ، وَيُبَلِّغُهُ بِكَسْرِهَا، وَقَوْلُهُ: مَنْ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: لِمَنْ هُوَ.
قَوْلُهُ: (أَوْعَى لَهُ) زَادَ فِي رِوَايَةِ الْحَجِّ: مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ كَذَلِكَ) هَذِهِ جُمْلَةٌ مَوْقُوفَةٌ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ تَخَلَّلَتْ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمَرْفُوعَةِ كَمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَاضِحًا فِي بَابِ لِيُبَلِّغِ الْعِلْمَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا تَرْجِعُوا) هُوَ بِالسَّنَدِ