قَوْلُهُ: (بَابُ التَّعَرُّبِ فِي الْفِتْنَةِ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ الثَّقِيلَةِ؛ أَيِ السُّكْنَى مَعَ الْأَعْرَابِ بِفَتْحِ الْأَلِفِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمُهَاجِرُ مِنَ الْبَلَدِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا فَيَسْكُنَ الْبَدْوَ فَيَرْجِعَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ أَعْرَابِيًّا، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُحَرَّمًا إِلَّا إِنْ أَذِنَ لَهُ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ، وَقَيَّدَهُ بِالْفِتْنَةِ إِشَارَةً إِلَى مَا وَرَدَ مِنَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْفِتَنِ كَمَا فِي ثَانِي حَدِيثَيِ الْبَابِ، وَقِيلَ بِمَنْعِهِ فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ خِذْلَانِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَلَكِنَّ نَظَرَ السَّلَفِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ آثَرَ السَّلَامَةَ وَاعْتَزَلَ الْفِتَنَ كَسَعْدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَابْنِ عُمَرَ فِي طَائِفَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَاشَرَ الْقِتَالَ وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: التَّعَزُّبُ؛ بِالزَّايِ، وَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: وَجَدْتُهُ بِخَطِّي فِي الْبُخَارِيِّ بِالزَّايِ وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ وَهْمًا، فَإِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ الْبُعْدُ وَالِاعْتِزَالُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا حَاتِمٌ) بِمُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ؛ هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكُوفِيُّ نَزِيلُ الْمَدِينَةِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي رِوَايَةِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ حَاتِمٍ: أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْرَجَهَا أَبُو نُعَيْمٍ.
قَوْلُهُ: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ) هُوَ ابْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ الْأَمِيرُ الْمَشْهُورُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا وَلِيَ الْحَجَّاجُ إِمْرَةَ الْحِجَازِ بَعْدَ قَتْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَسَارَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ.
قَوْلُهُ: (ارْتَدَدْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ) كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا جَاءَ مِنَ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ عَدِّ الْكَبَائِرِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ: مَنْ رَجَعَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ أَعْرَابِيًّا. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ: لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَالْمُرْتَدُّ بَعْدَ هِجْرَتِهِ أَعْرَابِيًّا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مَنْ رَجَعَ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَعُدُّونَهُ كَالْمُرْتَدِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَفَاءِ الْحَجَّاجِ حَيْثُ خَاطَبَ هَذَا الصَّحَابِيَّ الْجَلِيلَ بِهَذَا الْخِطَابِ الْقَبِيحِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْتَكْشِفَ عَنْ عُذْرِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَهُ فَبَيَّنَ الْجِهَةَ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ بِهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَفَعَهُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ بَدَا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، إِلَّا فِي الْفِتْنَةِ؛ فَإِنَّ الْبَدْوَ خَيْرٌ مِنَ الْمُقَامِ فِي الْفِتْنَةِ.
قَوْلُهُ: (قَالَ: لَا)؛ أَيْ: لَمْ أَسْكُنِ الْبَادِيَةَ رُجُوعًا عَنْ هِجْرَتِي (وَلَكِنَّ) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ.
قَوْلُهُ: (أَذِنَ لِي فِي الْبَدْو) وَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ مَسْعَدَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي الْبَدَاوَةِ فَأَذِنَ لَهُ. أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ ﷺ. وَقَدْ وَقَعَ لِسَلَمَةَ فِي ذَلِكَ قِصَّةٌ أُخْرَى مَعَ غَيْرِ الْحَجَّاجِ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: قَدِمَ سَلَمَةُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَهُ بُرَيْدَةُ بْنُ الْخَصِيبِ فَقَالَ: ارْتَدَدْتَ عَنْ هِجْرَتِكَ؟! فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، إِنِّي فِي إِذْنٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ابْدُوَا يَا أَسْلَمَ - أَيِ الْقَبِيلَةُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي مِنْهَا سَلَمَةُ، وَأَبُو بَرْزَةَ، وَبُرَيْدَةُ الْمَذْكُورُ - قَالُوا: إِنَّا نَخَافُ أَنْ يَقْدَحَ ذَلِكَ فِي هِجْرَتِنَا. قَالَ: أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَرْهَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ لِجَابِرٍ: مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ. فَقَالَ رَجُلٌ: أَمَّا سَلَمَةُ فَقَدِ ارْتَدَّ عَنْ هِجْرَتِهِ. فَقَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لِأَسْلَمَ: ابْدُوَا. قَالُوا: إِنَّا نَخَافُ أَنْ نَرْتَدَّ بَعْدَ هِجْرَتِنَا. قَالَ: أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ، وَسَنَدُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَسَنٌ.
قَوْلُهُ: (وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) هُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: (لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ خَرَجَ سَلَمَةُ إِلَى الرَّبَذَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ؛ مَوْضِعٌ بِالْبَادِيَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُدَّةُ سُكْنَى سَلَمَةَ الْبَادِيَةَ وَهِيَ نَحْوُ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، لِأَنَّ قَتْلَ عُثْمَانَ كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمَوْتَ سَلَمَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ عَلَى الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: (فَلَمْ يَزَلْ بِهَا) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: هُنَاكَ، (حَتَّى قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِلَيَالٍ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ كَانَ بَعْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute