وَقَدِ اعْتَذَرَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَبِهِ قال: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ الْكِرْمَانِيِّ عَنْهُ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قال: هُوَ حَدِيثٌ لَمْ أَقِفْ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يُثْبِتُ الْعُذْرَ لِمَنْ وَقَفَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَجَنَحَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّرْجِيحِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَالتَّرْجِيحُ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَالْأَخْذُ بِحَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ يَسْتَلْزِمُ الْأَخْذَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ دُونَ الْعَكْسِ، وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ.
وَلَوْ سَلَكْنَا التَّرْجِيحَ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ نَقُلْ بِالتَّتْرِيبِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ مَالِكٍ بِدُونِهِ أَرْجَحُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ أَثْبَتَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقُلْنَا بِهِ أَخْذًا بِزِيَادَةِ الثِّقَةِ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ، فَقَالَ: لَمَّا كَانَ التُّرَابُ جِنْسًا غَيْرَ الْمَاءِ جُعِلَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مَعْدُودًا بِاثْنَتَيْنِ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا غَسْلَةً مُسْتَقِلَّةً، لَكِنْ لَوْ وَقَعَ التَّعْفِيرُ فِي أَوَّلِهِ قَبْلَ وُرُودِ الْغَسَلَاتِ السَّبْعِ كَانَتِ الْغَسَلَاتُ ثَمَانِيَةً، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْغَسْلَةِ عَلَى التَّتْرِيبِ مَجَازًا. وَهَذَا الْجَمْعُ مِنْ مُرَجِّحَاتِ تَعَيُّنِ التُّرَابِ فِي الْأُولَى.
وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْهُ مُنْتَشِرٌ جِدًّا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْرَدَ بِالتَّصْنِيفِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَافٍ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
١٧٣ - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ؛ فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ.
[الحديث ١٧٣ - أطرافه في: ٦٠٠٩، ٢٤٦٦، ٢٣٦٣]
١٧٤ - وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قال: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قال: كَانَتْ الْكِلَابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجُ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَشَيْخُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ لَكِنَّهُ صَدُوقٌ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَالْإِسْنَادُ مِنْهُ فَصَاعِدًا مَدَنِيُّونَ، وَأَبُوهُ وَشَيْخُهُ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ تَابِعِيَّانِ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ رَجُلًا) لَمْ يُسَمَّ هَذَا الرَّجُلُ وَهُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: (يَأْكُلُ الثَّرَى) بِالْمُثَلَّثَةِ أَيْ يَلْعَقُ التُّرَابَ النَّدِيَّ، وَفِي الْمُحْكَمِ الثَّرَى التُّرَابُ، وَقِيلَ التُّرَابُ الَّذِي إِذَا بُلَّ لَمْ يَصِرْ طِينًا لَازِبًا.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْعَطَشِ) أَيْ بِسَبَبِ الْعَطَشِ.
قَوْلُهُ: (يَغْرِفُ لَهُ بِهِ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ سَقَى الْكَلْبَ فِيهِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا وَفِيهِ اخْتِلَافٌ، وَلَوْ قُلْنَا بِهِ لَكَانَ مَحَلُّهُ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ، وَمَعَ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَبَّهُ فِي شَيْءٍ فَسَقَاهُ أَوْ غَسَلَ خُفَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ)؛ أَيْ: أَثْنَى عَلَيْهِ فَجَزَاهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَبِلَ عَمَلَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ فَضْلِ سَقْيِ الْمَاءِ مِنْ كِتَابِ الشُّرْبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ.
قَوْلُهُ: (حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. (كَانَتِ الْكِلَابُ) زَادَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَتِهِمَا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ الْمَذْكُورِ مَوْصُولًا بِصَرِيحِ التَّحْدِيثِ قَبْلَ قَوْلِهِ تُقْبِلُ تَبُولُ وَبَعْدَهَا وَاوُ الْعَطْفِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْأَصِيلِيُّ أَنَّهَا فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ شَيْخِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى طَهَارَةِ الْكِلَابِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى نَجَاسَةِ بَوْلِهَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْكَلْبَ يُؤْكَلُ وَأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ يَقْدَحُ فِي نَقْلِ الِاتِّفَاقِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قال جَمْعٌ بِأَنَّ أَبْوَالَ الْحَيَوَانَاتِ كُلِّهَا طَاهِرَةٌ إِلَّا الْآدَمِيَّ، وَمِمَّنْ، قال بِهِ ابْنُ وَهْبٍ، حَكَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ غَسْلِ الْبَوْلِ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهَا كَانَتْ تَبُولُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فِي مَوَاطِنِهَا ثُمَّ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ