أَقْسَامِ الْمَرْفُوعِ، وَقَلَّ مَنْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لِتَخْرِيجِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي شَمَائِلِهِ ﷺ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ خَلْقِهِ وَذَاتِهِ كَوَجْهِهِ وَشَعْرِهِ، وَكَذَا بِصِفَةِ خُلُقِهِ كَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ، وَهَذَا مُنْدَرِجٌ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مُصَرَّحًا فِيهِ بِالرَّفْعِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ لَكِنْ لَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا بِزِيَادَةٍ فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِهِ أَيْضًا، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ فِي بَابِ الْهَدْيِ الصَّالِحِ، وَالْمُحْدَثَاتُ بِفَتْحِ الدَّالِّ جَمْعُ مُحْدَثَةٍ. وَالْمُرَادُ بِهَا: مَا أُحْدِثَ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَيُسَمَّى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ بِدْعَةً.
وَمَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ، فَالْبِدْعَةُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَذْمُومَةٌ، بِخِلَافِ اللُّغَةِ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ يُسَمَّى بِدْعَةً سَوَاءٌ كَانَ مَحْمُودًا أَوْ مَذْمُومًا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمُحْدَثَةِ وَفِي الْأَمْرِ الْمُحْدَثِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَمَضَى بَيَانُ ذَلِكَ قَرِيبًا فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَهُوَ حَدِيثٌ، أَوَّلُهُ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً فَذَكَرَهُ. وَفِيهِ هَذَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ الْبِدْعَةُ بِدْعَتَانِ: مَحْمُودَةٌ وَمَذْمُومَةٌ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَحْمُودٌ وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ مَذْمُومٌ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِمَعْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْجُنَيْدِ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَجَاءَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ قَالَ الْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ مَا أُحْدِثُ يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا فَهَذِهِ بِدْعَةُ الضَّلَالِ، وَمَا أُحْدِثُ مِنَ الْخَيْرِ لَا يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ انْتَهَى.
وَقَسَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبِدْعَةَ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَهُوَ وَاضِحٌ، وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ أَصْبَحْتُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مُحْدَثَةً فَعَلَيْكُمْ بِالْهَدْيِ الْأَوَّلِ.
فَمِمَّا حَدَثَ: تَدْوِينُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ، ثُمَّ تَدْوِينُ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُوَلَّدَةِ عَنِ الرَّأْيِ الْمَحْضِ، ثُمَّ تَدْوِينُ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَأَنْكَرَهُ عُمَرُ، وَأَبُو مُوسَى وَطَائِفَةٌ، وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ كَالشَّعْبِيِّ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ، وَكَذَا اشْتَدَّ إِنْكَارُ أَحْمَدَ لِلَّذِي بَعْدَهُ.
وَمِمَّا حَدَثَ أَيْضًا: تَدْوِينُ الْقَوْلِ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ، فَتَصَدَّى لَهَا الْمُثْبِتَةُ وَالنُّفَاةُ، فَبَالَغَ الْأَوَّلُ حَتَّى شَبَّهَ، وَبَالَغَ الثَّانِي حَتَّى عَطَّلَ. وَاشْتَدَّ إِنْكَارُ السَّلَفِ لِذَلِكَ كَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَكَلَامُهُمْ فِي ذَمِّ أَهْلِ الْكَلَامِ مَشْهُورٌ. وَسَبَبُهُ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، وَثَبَتَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ شَيْءٌ مِنَ الْأَهْوَاءِ - يَعْنِي بِدَعَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ -. وَقَدْ تَوَسَّعَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْفَاضِلَةِ فِي غَالِبِ الْأُمُورِ الَّتِي أَنْكَرَهَا أَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِذَلِكَ حَتَّى مَزَجُوا مَسَائِلَ الدِّيَانَةِ بِكَلَامِ الْيُونَانِ، وَجَعَلُوا كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ أَصْلًا يَرُدُّونَ إِلَيْهِ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْآثَارِ بِالتَّأْوِيلِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَكْرَهًا، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّ الَّذِي رَتَّبُوهُ هُوَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَوْلَاهَا بِالتَّحْصِيلِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ عَامِّيٌّ جَاهِلٌ. فَالسَّعِيدُ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَاجْتَنَبَ مَا أَحْدَثَهُ الْخَلَفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ فَلْيَكْتَفِ مِنْهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَيَجْعَلَ الْأَوَّلَ الْمَقْصُودَ بِالْأَصَالَةِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ غُضَيْفِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ: إِنَّا قَدْ جَمَعْنَا النَّاسَ عَلَى رَفْعِ الْأَيْدِي عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute