وَعَلَى الْقَصَصِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُمَا أَمْثَلُ بِدَعِكُمْ عِنْدِي، وَلَسْتُ بِمُجِيبِكُمْ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ مِنَ السُّنَّةِ مِثْلُهَا ; فَتَمَسُّكٌ بِسَنَةٍ خَيْرٌ مِنْ إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ، انْتَهَى.
وَإِذَا كَانَ هَذَا جَوَابُ هَذَا الصَّحَابِيِّ فِي أَمْرٍ لَهُ أَصْلٌ فِي السُّنَّةِ فَمَا ظَنُّكَ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِيهَا؟ فَكَيْفَ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَا يُخَالِفُهَا؟ وَقَدْ مَضَى فِي كِتَابِ الْعِلْمِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُذَكِّرُ الصَّحَابَةَ كُلَّ خَمِيسٍ لِئَلَّا يَمَلُّوا وَمَضَى فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمْعَةٍ فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، وَنَحْوُهُ وَصِيَّةُ عَائِشَةَ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالْمُرَادُ بِالْقَصَصِ التَّذْكِيرُ وَالْمَوْعِظَةُ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلْهُ رَاتِبًا كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، بَلْ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ بَعْدَ قَوْلِهِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ يُسَمَّى بِدْعَةً وَقَوْلُهُ: كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ بِمَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا، أَمَّا مَنْطُوقُهَا فَكَأَنْ يُقَالَ حُكْمُ كَذَا بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ فَلَا تَكُونُ مِنَ الشَّرْعِ لِأَنَّ الشَّرْعَ كُلَّهُ هُدًى، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَكَمَ الْمَذْكُورَ بِدْعَةٌ صَحَّتِ الْمُقَدِّمَتَانِ، وَأَنْتَجَتَا الْمَطْلُوبَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مَا أُحْدِثُ وَلَا دَلِيلَ لَهُ مِنَ الشَّرْعِ بِطَرِيقٍ خَاصٍّ وَلَا عَامٍّ. وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أَرَادَ خَتْمَ مَوْعِظَتِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُنَاسِبُ الْحَالَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَوَاخِرِ الْقَوَاعِدِ: الْبِدْعَةُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:
فَالْوَاجِبَةُ كَالِاشْتِغَالِ بِالنَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ، وَلَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ مُقَدَّمَةِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا شَرْحُ الْغَرِيبِ وَتَدْوِينُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالتَّوَصُّلُ إِلَى تَمْيِيزِ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ.
وَالْمُحَرَّمَةُ مَا رَتَّبَهُ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُشَبِّهَةِ.
وَالْمَنْدُوبَةُ كُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ عَيْنُهُ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ كَالِاجْتِمَاعِ عَن التَّرَاوِيحِ وَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبَطِ وَالْكَلَامِ فِي التَّصَوُّفِ الْمَحْمُودِ وَعَقْدِ مَجَالِسِ الْمُنَاظَرَةِ إِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ وَجْهُ اللَّهِ.
وَالْمُبَاحَةُ كَالْمُصَافَحَةِ عَقِبِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمُسْتَلَذَّاتِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ.
وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ ذَلِكَ مَكْرُوهًا أَوْ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ والْخَامِسُ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ قَالَا: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّ الْخِطَابَ لَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِوَالِدِ الْعَسِيفِ وَالَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، لَمَّا تَحَاكَمَا بِسَبَبِ زِنَا الْعَسِيفِ بِامْرَأَةِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ، وَالْقَدْرُ الْمَذْكُورُ هُنَا طَرَفٌ مِنَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَاقْتَصَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ فِي غَرَضِهِ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ يُطْلَقُ عَلَيْهَا كِتَابُ اللَّهِ لِأَنَّهَا بِوَحْيِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ مَعَ شَرْحِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْمُحَارِبِينَ الْمُتَعَلِّقِ بِبَيَانِ الْحُدُودِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ (فُلَيْحٌ) بِالْفَاءِ وَالْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرٌ هُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ، وَشَيْخُهُ هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ.
قَوْلُهُ: كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيِ امْتَنَعَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْعُمُومَ مُسْتَمِرٌّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى؟ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ إِسْنَادَ الِامْتِنَاعِ إِلَيْهِمْ عَنِ الدُّخُولِ مَجَازٌ عَنْ الِامْتِنَاعِ عَنْ سُنَّتِهِ وَهُوَ عِصْيَانُ الرَّسُولِ ﷺ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْأَحْكَامِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا مَرْفُوعًا مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: لَتَدْخُلُنَّ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى وَشَرَدَ عَلَى اللَّهِ شِرَادَ الْبَعِيرِ وَسَنَدُهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ، وَالْمَوْصُوفُ بِالْإِبَاءِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ إِنْ كَانَ كَافِرًا فَهُوَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَالْمُرَادُ مَنْعُهُ مِنْ دُخُولِهَا مَعَ أَوَّلِ دَاخِلٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ