طَرِيقِ طَاوُسٍ، عَنْ مُعَاذٍ رَفَعَهُ لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَفْعَلُوا لَمْ يَزَلْ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ إِذَا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَإِنْ عَجَّلْتُمْ تَشَتَّتَ بِكُمُ السُّبُلُ. وَهُمَا مُرْسَلَانِ يُقَوِّي بَعْضٌ بَعْضًا. وَمِنْ وَجْهٍ ثَالِثٍ عَنْ أَشْيَاخِ الزُّبَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ مَرْفُوعًا لَا يَزَالُ فِي أُمَّتِي مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ وَأُرْشِدَ حَتَّى يَتَسَاءَلُوا عَمَّا لَمْ يَنْزِلْ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ.
قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبَحْثَ عَمَّا لَا يُوجَدُ فِيهِ نَصٌّ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْحَثَ عَنْ دُخُولِهِ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى اخْتِلَافِ وُجُوهِهَا، فَهَذَا مَطْلُوبٌ لَا مَكْرُوهٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ فَرْضًا عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ.
ثَانِيهُمَا: أَنْ يُدَقِّقَ النَّظَرَ فِي وُجُوهِ الْفُرُوقِ فَيُفَرِّقَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ بِفَرْقٍ لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ وَصْفِ الْجَمْعِ، أَوْ بِالْعَكْسِ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقَيْنِ بِوَصْفٍ طَرْدِيٍّ مَثَلًا فَهَذَا الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ، وَعَلَيْهِ يَنْطَبِقُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، فَرَأَوْا أَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ الزَّمَانِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَمِثْلُهُ الْإِكْثَارُ مِنَ التَّفْرِيعِ عَلَى مَسْأَلَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا الْإِجْمَاعِ، وَهِيَ نَادِرَةُ الْوُقُوعِ جِدًّا، فَيَصْرِفُ فِيهَا زَمَانًا كَانَ صَرْفُهُ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى وَلَا سِيَّمَا إِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ إِغْفَالُ التَّوَسُّعِ فِي بَيَانِ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ فِي كَثْرَةِ السُّؤَالِ، الْبَحْثُ عَنْ أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِالْإِيمَانِ بِهَا مَعَ تَرْكِ كَيْفِيَّتِهَا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ لَهُ شَاهِدٌ فِي عَالَمِ الْحِسِّ، كَالسُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ وَعَنِ الرُّوحِ وَعَنْ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّقْلِ الصِّرْفِ. وَالْكَثِيرُ مِنْهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ. وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يُوقِعُ كَثْرَةُ الْبَحْثِ عَنْهُ فِي الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ، وَسَيَأْتِي مِثَالُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يُقَالَ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ. وَهُوَ ثَامِنُ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: مِثَالُ التَّنَطُّعِ فِي السُّؤَالِ حَتَّى يُفْضِيَ بِالْمَسْئُولِ إِلَى الْجَوَابِ بِالْمَنْعِ، بَعْدَ أَنْ يُفْتَى بِالْإِذْنِ: أَنْ يَسْأَلَ عَنِ السِّلَعِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْأَسْوَاقِ، هَلْ يُكْرَهُ شِرَاؤُهَا مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ مِنْ قَبْلِ الْبَحْثِ عَنْ مَصِيرِهَا إِلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَيُجِيبُهُ بِالْجَوَازِ، فَإِنْ عَادَ فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ نَهْبٍ أَوْ غَصْبٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَقْتُ قَدْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُجِيبَهُ بِالْمَنْعِ، وَيُقَيِّدُ ذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَرُمَ، وَإِنْ تَرَدَّدَ كُرِهَ أَوْ كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَلَوْ سَكَتَ السَّائِلُ عَنْ هَذَا التَّنَطُّعِ لَمْ يَزِدِ الْمُفْتِي عَلَى جَوَابِهِ بِالْجَوَازِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ يَسُدُّ بَابَ الْمَسَائِلِ حَتَّى فَاتَهُ مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَكْثُرُ وُقُوعُهَا فَإِنَّهُ يَقِلُّ فَهْمُهُ وَعِلْمُهُ، وَمَنْ تَوَسَّعَ فِي تَفْرِيعِ الْمَسَائِلِ وَتَوْلِيدِهَا وَلَا سِيَّمَا فِيمَا يَقِلُّ وُقُوعُهُ أَوْ يَنْدُرُ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ الْمُبَاهَاةُ وَالْمُغَالَبَةُ، فَإِنَّهُ يُذَمُّ فِعْلُهُ وَهُوَ عَيْنُ الَّذِي كَرِهَهُ السَّلَفُ. وَمَنْ أَمْعَنَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ، مُحَافِظًا عَلَى مَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وَحَصَّلَ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ مَنْطُوقِهِ وَمَفْهُومِهِ، وَعَنْ مَعَانِي السُّنَّةِ وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ مُقْتَصِرًا عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلْحُجَّةِ مِنْهَا فَإِنَّهُ الَّذِي يُحْمَدُ وَيُنْتَفَعُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ عَمَلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى حَدَثَتِ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَعَارَضَتْهَا الطَّائِفَةُ الْأُولَى، فَكَثُرَ بَيْنَهُمُ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ وَتَوَلَّدَتِ الْبَغْضَاءُ وَتَسَمَّوْا خُصُومًا وَهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ، وَالْوَاسِطُ هُوَ الْمُعْتَدِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَى ذَلِكَ يُشِيرُ قَوْلُهُ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ يَجُرُّ إِلَى عَدَمِ الِانْقِيَادِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ حَيْثُ تَقْسِيمُ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ.
وَأَمَّا الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّشَاغُلُ بِهِ فَقَدْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي أَيِّهِمَا أَوْلَى، وَالْإِنْصَافُ أَنْ يُقَالَ: كُلَّمَا زَادَ عَلَى مَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ فَرْضُ عَيْنٍ، فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَى الْفَهْمِ وَالتَّحْرِيرِ فَتَشَاغُلُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِعْرَاضِهِ عَنْهُ، وَتَشَاغُلِهِ بِالْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute