عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُهُ، وَلَوْ سَأَلَنِي عَنْ أَبِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ وَذَكَرَ فِيهِ عِتَابَ أُمِّهِ لَهُ وَجَوَابَهُ. وَذَكَرَ فِيهِ فَقَامَ رَجُلٌ فَسَأَلَ عَنِ الْحَجِّ فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: فَقَامَ سَعْدٌ مَوْلَى شَيْبَةَ فَقَالَ: مَنْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ أَنْتَ سَعْدُ بْنُ سَالِمٍ مَوْلَى شَيْبَةَ، وَفِيهِ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ قَالَ فِي النَّارِ.
فَذَكَرَ قِصَّةَ عُمَرَ قَالَ: فَنَزَلَتْ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ﴾ الْآيَةَ وَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ وَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يَتَّضِحُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ سَبَبُ نُزُولِ ﴿لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ فَإِنَّ الْمُسَاءَةَ فِي حَقِّ هَذَا جَاءَتْ صَرِيحَةً، بِخِلَافِهَا فِي حَقِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ فَإِنَّهَا بِطَرِيقِ الْجَوَازِ، أَيْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِ فَبَيَّنَ أَبَاهُ الْحَقِيقِيَّ لَافْتَضَحَتْ أُمُّهُ، كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ أُمُّهُ حِينَ عَاتَبَتْهُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ.
قَوْلُهُ (فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْغَضَبِ) بَيَّنَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ فَهِمُوا ذَلِكَ، فَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافًّا رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي وَزَادَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ الْمَاضِيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْمَائِدَةِ فَغَضُّوا رُءُوسَهُمْ لَهُمْ حنِينٌ زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: فَقَالَ: إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ ﷿ زَادَ فِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتِهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا وَفِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ مِنَ الزِّيَادَةِ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ. وَفِي مُرْسَلِ السُّدِّيِّ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ فِي نَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَبَّلَ رِجْلَهُ وَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا. فَذَكَرَ مِثْلَهُ وَزَادَ وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، فَاعْفُ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى رَضِيَ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ - غَيْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجَمَةِ - مُرَاقَبَةُ الصَّحَابَةِ أَحْوَالَ النَّبِيِّ ﷺ وَشِدَّةُ إِشْفَاقِهِمْ إِذَا غَضِبَ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يَعُمُّ فَيَعُمَّهُمْ، وَإِدْلَالُ عُمَرَ عَلَيْهِ، وَجَوَازُ تَقْبِيلِ رِجْلِ الرَّجُلِ، وَجَوَازُ الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ، وَبُرُوكُ الطَّالِبِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ، وَكَذَا التَّابِعُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَتْبُوعِ إِذَا سَأَلَهُ فِي حَاجَةٍ، وَمَشْرُوعِيَّةُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْفِتَنِ عِنْدَ وُجُودِ شَيْءٍ قَدْ يَظْهَرُ مِنْهُ قَرِينَةُ وُقُوعِهَا، وَاسْتِعْمَالُ الْمُزَاوَجَةِ فِي الدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: اعْفُ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ وَإِلَّا فَالنَّبِيُّ ﷺ مَعْفُوٌّ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، فَقَالَ: مَا أَدْرِي أَنَهَى عَنِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ النَّوَازِلِ، أَوْ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ الْمَالَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا مَعْنَى لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، لَا حَيْثُ يَجُوزُ وَلَا حَيْثُ لَا يَجُوزُ. قَالَ: وَقِيلَ: كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الشَّيْءِ وَيُلِحُّونَ فِيهِ إِلَى أَنْ يُحَرَّمَ، قَالَ: وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنِ النَّوَازِلِ وَالْأُغْلُوطَاتِ وَالتَّوْلِيدَاتِ كَذَا قَالَ: وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَامُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ.
قَوْلُهُ: (وَكَتَبَ إِلَيْهِ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ أَفْرَدَ كَثِيرٌ مِنَ الرُّوَاةِ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَالْغَرَضُ مِنْ إِيرَادِهِ هُنَا أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي الْمُرَادِ بِكَثْرَةِ السُّؤَالِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ هَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْمَالِ أَوْ بِالْأَحْكَامِ أَوْ لِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ. وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، لَكِنْ فِيمَا لَيْسَ لِلسَّائِلِ بِهِ احْتِيَاجٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي الدَّعَوَاتِ، وَالثَّانِي فِي الرِّقَاقِ.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: (قَوْلُهُ: عَنْ أَنَسٍ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ) هَكَذَا أَوْرَدَهُ مُخْتَصَرًا. وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ فَقَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: مَا كُلِّفْنَا - أَوْ قَالَ: مَا أُمِرْنَا -