أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَا يَرْفَعُ اللَّهُ الْعِلْمَ بِقَبْضِهِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ الْحَدِيثَ ; وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِمَعْنَى حَدِيثِ مَالِكٍ.
قُلْتُ: وَرِوَايَةُ يَحْيَى أَخْرَجَهَا الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ عَنْهُ، وَوَجَدْتُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيهِ سَنَدًا آخَرَ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ الْعَلَاءِ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ هِشَامٍ سَوَاءً، لَكِنْ زَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَالْعَلَاءُ بْنُ سُلَيْمَانَ ضَعَّفَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَأَوْرَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ الَّتِي مَضَتْ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظِ يَقْبِضُ اللَّهُ الْعُلَمَاءَ، وَيَقْبِضُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ، فَتَنْشَأُ أَحْدَاثٌ يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ نَزْوَ الْعِيرِ عَلَى الْعِيرِ، وَيَكُونُ الشَّيْخُ فِيهِمْ مُسْتَضْعَفًا وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَأَخْرَجَ الدَّارِمِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
قَوْلَهُ رَفْعُ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَبْضُ الْعِلْمِ قَبْضُ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا ذَهَابُ الْعِلْمِ؟ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ وَأَفَادَ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الَّذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ أَوَّلًا وَقْتَ تَحْدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ مِنَ الْفَائِدَةِ ازَّائِدَةِ أَنَّ بَقَاءَ الْكُتُبِ بَعْدَ رَفْعِ الْعِلْمِ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ لَا يُغْنِي مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ شَيْئًا فَإِنَّ فِي بَقِيَّتِهِ فَسَأَلَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يُرْفَعُ الْعِلْمُ مِنَّا وَبَيْنَ أَظْهُرِنَا الْمَصَاحِفُ، وَقَدْ تَعَلَّمْنَا مَا فِيهَا وَعَلَّمْنَاهَا أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَخَدَمَنَا، فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَقَالَ: وَهَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بَيْنَ أَظْهُرِهِمُ الْمَصَاحِفُ، لَمْ يَتَعَلَّقُوا مِنْهَا بِحَرْفٍ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ وَلِهَذِهِ الزِّيَادَةِ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ وَغَيْرِهِمْ، وَهِيَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَالدَّارِمِيِّ، وَالْبَزَّارِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَفِي جَمِيعِهَا هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ فَسَّرَ عُمَرُ قَبْضَ الْعِلْمِ بِمَا وَقَعَ تَفْسِيرُهُ بِهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ فَسَمِعَهُ عُمَرُ فَقَالَ: أَمَا إنَّهُ لَيْسَ يُنْزَعُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ بِذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عُمَرَ مَرْفُوعًا، فَيَكُونُ شَاهِدًا قَوِيًّا لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ خُلُوِّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ - خِلَافًا لِأَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضٍ منْ غَيْرِهِمْ - لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي رَفْعِ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، وَفِي تَرْئِيسِ أَهْلِ الْجَهْلِ وَمِنْ لَازِمِهِ الْحُكْمُ بِالْجَهْلِ، وَإِذَا انْتَفَى الْعِلْمُ وَمَنْ يَحْكُمُ بِهِ اسْتَلْزَمَ انْتِفَاءَ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ، وَعُورِضَ هَذَا بِحَدِيثِ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَفِي لَفْظٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ - أَوْ - حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَمَضَى فِي الْعِلْمِ كَالْأَوَّلِ بِغَيْرِ شَكٍّ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَلَمْ يَشُكَّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأُجِيبَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الْخُلُوِّ لَا فِي نَفْيِ الْجَوَازِ، وَثَانِيًا بِأَنَّ الدَّلِيلَ لِلْأَوَّلِ أَظْهَرُ لِلتَّصْرِيحِ بِقَبْضِ الْعِلْمِ تَارَةً وَبِرَفْعِهِ أُخْرَى بِخِلَافِ الثَّانِي، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعَارُضِ فَيَبْقَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَانِعِ.
قَالُوا: الِاجْتِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَسْتَلْزِمُ انْتِفَاؤَهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَقَاءَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَشْرُوطٌ بِبَقَاءِ الْعُلَمَاءِ، فَأَمَّا إِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى انْقِرَاضِ الْعُلَمَاءِ فَلَا؛ لِأَنَّ بِفَقْدِهِمْ تَنْتَفِي الْقُدْرَةُ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَإِذَا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لَمْ يَقَعِ التَّكْلِيفُ بِهِ، هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ: تَغَيُّرُ الزَّمَانِ حَتَّى تُعْبَدَ الْأَوْثَانُ، فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الْفِتَنِ مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ وُجُودِ ذَلِكَ عِنْدَ فَقْدِ الْمُسْلِمِينَ بِهُبُوبِ الرِّيحِ الَّتِي تَهُبُّ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى ﵇، فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا قَبَضَتْهُ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ كَمَا بَيَّنْتُهُ هُنَاكَ فَلَا يَرِدُ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالْعَمَلِ بِالْجَهْلِ لِعَدَمِ وُجُودِهِمْ، وَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute