الْمَشْرُوطُ دُونَ شَرْطِهِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمُخْتَارَ لِلشَّيْءِ لَوْ كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَيْهِ لَتَعَذَّرَ مُرَادُهُ وَقَدْ وُجِدَتْ بِغَيْرِ تَعَذُّرٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِهَا، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ لَمْ يُتَخَصَّصُ عِلْمُهُ فِي تَعَلُّقِهِ بِمَعْلُومٍ دُونَ مَعْلُومٍ؛ لِوُجُوبِ قِدَمِهِ الْمُنَافِي لِقَبُولِ التَّخْصِيصِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَاتٌ، وَالْجُزْئِيَّاتِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَاتٌ أَيْضًا؛ وَلِأَنَّهُ مُرِيدٌ لِإِيجَادِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَالْإِرَادَةُ لِلشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا مَشْرُوطَةٌ بِالْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمُرَادِ الْجُزْئِيِّ، فَيَعْلَمُ الْمَرْئِيَّاتِ لِلرَّائِينَ وَرُؤْيَتَهُمْ لَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ، وَكَذَا الْمَسْمُوعَاتِ وَسَائِرَ الْمُدْرَكَاتِ لِمَا عُلِمَ ضَرُورَةً مِنْ وُجُوبِ الْكَمَالِ لَهُ وَأَضْدَادُ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ، وَالنَّقْصُ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ ﷾، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَضَلَّ مَنْ زَعَمَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّهُ ﷾ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْكُلِّيِّ لَا الْجُزْئِيِّ، وَاحْتَجُّوا بِأُمُورٍ فَاسِدَةٍ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى مُحَالٍ وَهُوَ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ؛ فَإِنَّ الْجُزْئِيَّاتِ زَمَانِيَّةٌ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَالْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومَاتِ فِي الثَّبَاتِ وَالتَّغَيُّرِ، فَيَلْزَمُ تَغَيُّرُ عِلْمِهِ، وَالْعِلْمُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ فَتَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ
وَهُوَ مُحَالٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّغَيُّرَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الْأَحْوَالِ الْإِضَافِيَّةِ، وَهَذَا مِثْلُ رَجُلٍ قَامَ عَنْ يَمِينِ الْأُسْطُوَانَةِ ثُمَّ عَنْ يَسَارِهَا ثُمَّ أَمَامَهَا ثُمَّ خَلْفَهَا، فَالرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَتَغَيَّرُ وَالْأُسْطُوَانَةُ بِحَالِهَا، فَاللَّهُ ﷾ عَالِمٌ بِمَا كُنَّا عَلَيْهِ أَمْسِ، وَبِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْآنَ، وَبِمَا نَكُونُ عَلَيْهِ غَدًا، وَلَيْسَ هَذَا خَبَرًا عَنْ تَغَيُّرِ عِلْمِهِ بَلِ التَّغَيُّرُ جَارٍ عَلَى أَحْوَالِنَا وَهُوَ عَالِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، وَأَمَّا السَّمْعِيَّةُ فَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ طَافِحٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ وَقَالَ: ﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ﴾ وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي مَفَاتِيحِ الْغَيْبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ
ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ مُخْتَصَرًا، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ وَهُوَ يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَهُوَ الْفِرْيَابِيُّ، وَعَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِلَفْظِ: وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ وَذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْسَبُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِمُوَافَقَتِهِ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَبْلَهُ، لَكِنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ الَّتِي أَكْثَرَ مِنْهَا مِنَ اخْتِيَارِ الْإِشَارَةِ عَلَى صَرِيحِ الْعِبَارَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِهَذَا السَّنَدِ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا وَأَحَلْتُ بِشَرْحِهِ عَلَى كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَسَأَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ قَالَ: قَوْلُهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ الْغَيْبَ مَا أَظُنُّهُ مَحْفُوظًا، وَمَا أَحَدٌ يَدَّعِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عُلِّمَ. انْتَهَى.
وَلَيْسَ فِي الطَّرِيقِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ بِلَفْظِ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ، وَأَظُنُّهُ بُنِيَ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ؛ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي الَّذِي قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ ثُمَّ قَالَتْ: وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ثَلَاثٌ مَنْ قَالَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ الْحَدِيثُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute