إِشَارَةً إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ السُّجُودَ فَلَوْ كَانَتِ الْيَدُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ آدَمَ وَإِبْلِيسَ فَرْقٌ لِتَشَارُكِهِمَا فِيمَا خُلِقَ كل مِنْهُمَا بِهِ، وَهِيَ قُدْرَتُهُ؛ وَلَقَالَ إِبْلِيسُ: وَأَيُّ فَضِيلَةٍ لَهُ عَلَيَّ وَأَنَا خَلَقْتَنِي بِقُدْرَتِكَ كَمَا خَلَقْتَهُ بِقُدْرَتِكَ، فَلَمَّا قَالَ: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ آدَمَ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ، قَالَ: وَلَا جَائِزَ أَنْ يُرَادَ بِالْيَدَيْنِ النِّعْمَتَانِ، لِاسْتِحَالَةِ خَلْقِ الْمَخْلُوقِ بِمَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّ النِّعَمَ مَخْلُوقَةٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمَا صِفَتَيْ ذَاتٍ أَنْ يَكُونَا جَارِحَتَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ قَوْلُهُ: وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانَ، يَدْفَعُ تَأْوِيلَ الْيَدِ هُنَا بِالْقُدْرَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَأَخَذَهُ بِيَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ.
الْحَدِيثَ، وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: قِيلَ الْيَدُ بِمَعْنَى الذَّاتِ، وَهَذَا يَسْتَقِيمُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا﴾ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ فَإِنَّهُ سِيقَ لِلرَّدِّ عَلَى إِبْلِيسَ؛ فَلَوْ حُمِلَ عَلَى الذَّاتِ لَمَا اتَّجَهَ الرَّدُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هَذَا يُسَاقُ مَسَاقَ التَّمْثِيلِ لِلتَّقْرِيبِ؛ لِأَنَّهُ عُهِدَ أَنَّ مَنِ اعْتَنَى بِشَيْءٍ وَاهْتَمَّ بِهِ بَاشَرَهُ بِيَدَيْهِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِخَلْقِ آدَمَ كَانَتْ أَتَمَّ مِنَ الْعِنَايَةِ بِخَلْقِ غَيْرِهِ، وَالْيَدُ فِي اللُّغَةِ تُطْلَقُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ اجْتَمَعَ لَنَا مِنْهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مَعْنًى مَا بَيْنَ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ: الْأَوَّلُ الْجَارِحَةُ، الثَّانِي الْقُوَّةُ، نَحْوُ: ﴿دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ﴾ الثَّالِثُ: الْمُلْكُ: ﴿إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ الرَّابِعُ: الْعَهْدُ: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: هَذِي يَدَيَّ لَكَ بِالْوَفَاءِ، الْخَامِسُ: الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
أَطَاعَ يَدًا بِالْقَوْلِ فَهُوَ ذَلُولٌ،
السَّادِسُ: النِّعْمَةُ، قَالَ:
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدِي مِنْ يَدٍ
السَّابِعُ: الْمُلْكُ: ﴿قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ﴾ الثَّامِنُ: الذُّلُّ: ﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ﴾ التَّاسِعُ: ﴿أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ الْعَاشِرُ: السُّلْطَانُ، الْحَادِي عَشَرَ: الطَّاعَةُ، الثَّانِي عَشَرَ: الْجَمَاعَةُ، الثَّالِثَ عَشَرَ: الطَّرِيقُ، يُقَالُ: أَخَذَتْهُمْ يَدُ السَّاحِلِ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ: التَّفَرُّقُ تَفَرَّقُوا أَيَادِي سَبَأ، الْخَامِسَ عَشَرَ: الْحِفْظُ، السَّادِسَ عَشَرَ: يَدُ الْقَوْسِ أَعْلَاهَا، السَّابِعَ عَشَرَ: يَدُ السَّيْفِ مِقْبَضُهُ، الثَّامِنَ عَشَرَ: يَدُ الرَّحَى عُودُ الْقَابِضِ، التَّاسِعَ عَشَرَ: جَنَاحُ الطَّائِرِ، الْعِشْرُونَ: الْمُدَّةُ، يُقَالُ لَا أَلْقَاهُ يَدُ الدَّهْرِ، الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الِابْتِدَاءُ، يُقَالُ: لَقِيتُهُ أَوَّلَ ذَاتِ يَدِي، وَأَعْطَاهُ عَنْ ظَهْرِ يَدٍ، الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: يَدُ الثَّوْبِ مَا فَضَلَ مِنْهُ، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: يَدُ الشَّيْءِ أَمَامُهُ، الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الطَّاقَةُ، الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: النَّقْدُ، نَحْوُ: بِعْتُهُ يَدًا بِيَدٍ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لِلثَّالِثِ مِنْهَا أَرْبَعَةُ طُرُقٍ، وَلِلرَّابِعِ طَرِيقَانِ.
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَنَسٍ فِي الشَّفَاعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الرِّقَاقِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ هُنَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَوْقِفِ لِآدَمَ: خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ ضَمَّ الْفَاءِ وَهِشَامٌ شَيْخُهُ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ، وَقَوْلُهُ عَنْ أَنَسٍ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ فِي الرِّقَاقِ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِلَفْظِ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ.
قَوْلُهُ: (يُجْمَعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ) هَكَذَا لِلْجَمِيعِ وَأَظُنُّ أَوَّلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ لَامٌ، وَالْإِشَارَةُ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ لِمَا يُذْكَرُ بَعْدُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ: يَجْمَعُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: يَهْتَمُّونَ - أَوْ - يُلْهَمُونَ لِذَلِكَ بِالشَّكِّ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ: حَتَّى يُهِمُّوا بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ هُنَا: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَفِّعْ بِكَسْرِ الْفَاءِ الثَّقِيلَةِ، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ هُوَ مِنَ التَّشْفِيعِ، وَمَعْنَاهُ قَبُولُ الشَّفَاعَةِ، ولَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ التَّثْقِيلُ لِلتَّكْثِيرِ أَوْ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُهُ: لَسْتُ هُنَاكَ كَذَا لِلْأَكْثَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلِأَبِي ذَرٍّ، عَنِ السَّرَخْسِيِّ: هُنَاكُمْ، وَقَوْلُهُ: فَيُؤْذَنُ لِي، فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: وَيُؤْذَنُ لِي بِالْوَاوِ، وَقَوْلُهُ: قُلْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute