للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَقَالَتِ الْجِسْمِيَّةُ: مَعْنَاهُ الِاسْتِقْرَارُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ: ارْتَفَعَ، وَبَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ عَلَا، وَبَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ الملك وَالْقُدْرَةُ، وَمِنْهُ: اسْتَوَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ، يُقَالُ لِمَنْ أَطَاعَهُ أَهْلُ الْبِلَادِ، وَقِيلَ: مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ التَّمَامُ وَالْفَرَاغُ مِنْ فِعْلِ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ فَعَلَى هَذَا، فَمَعْنَى اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ: أَتَمَّ الْخَلْقَ، وَخَصَّ لَفْظَ الْعَرْشِ لِكَوْنِهِ أَعْظَمَ الْأَشْيَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّ عَلَى فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْعَرْشِ، بِمَعْنَى: إِلَى، فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا انْتَهَى إِلَى الْعَرْشِ، أَيْ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فَأَمَّا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَاهِرًا غَالِبًا مُسْتَوْلِيًا، وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى﴾ يَقْتَضِي افْتِتَاحَ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَازِمُ تَأْوِيلِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مُغَالَبًا فِيهِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَهْرِ مَنْ غَالَبَهُ، وَهَذَا مُنْتَفٍ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُجَسِّمَةِ فَفَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَارَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُلُولُ وَالتَّنَاهِي، وَهُوَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَائِقٌ بِالْمَخْلُوقَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ قَالَ: وَأَمَّا تَفْسِيرُ اسْتَوَى: عَلَا، فَهُوَ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ، وَقَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعُلَى، وَقَالَ: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ وَهِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَأَمَّا مَنْ

فَسَّرَهُ: ارْتَفَعَ، فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ، قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ: هَلِ الِاسْتِوَاءُ صِفَةُ ذَاتٍ أَوْ صِفَةُ فِعْلٍ، فَمَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ عَلَا. قَالَ: هِيَ صِفَةُ ذَاتٍ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ هِيَ صِفَةُ فِعْلٍ، وَإِنَّ اللَّهَ فَعَلَ فِعْلًا سَمَّاهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ، لَا أَنَّ ذَلِكَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لِاسْتِحَالَةِ قِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

وَقَدْ أَلْزَمَهُ مَنْ فَسَّرَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ بِمِثْلِ مَا أَلْزَمَ هُوَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ صَارَ قَاهِرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَيَلْزَمُ أَنَّهُ صَارَ غَالِبًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ وَالِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ لِلْفَرِيقَيْنِ بِالتَّمَسُّكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ قَالُوا: مَعْنَاهُ: لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ فُصِّلَتْ، وَبَقِيَ مِنْ مَعَانِي اسْتَوَى مَا نُقِلَ عَنْ ثَعْلَبٍ اسْتَوَى الْوَجْهُ اتَّصَلَ، وَاسْتَوَى الْقَمَرُ امْتَلَأَ وَاسْتَوَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ تَمَاثَلَا، وَاسْتَوَى إِلَى الْمَكَانِ أَقْبَلَ، وَاسْتَوَى الْقَاعِدُ قَائِمًا وَالنَّائِمُ قَاعِدًا، وَيُمْكِنُ رَدُّ بَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي إِلَى بَعْضٍ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ بَطَّالٍ، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيُّ فِي كِتَابِ الْفَارُوقِ بِسَنَدِهِ إِلَى دَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ، يَعْنِي: مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادٍ اللُّغَوِيَّ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فَقَالَ: هُوَ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ، قَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ اسْتَوْلَى، فَقَالَ: اسْكُتْ، لَا يُقَالُ: اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُضَادٌّ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ الْأَزْدِيِّ، سَمِعْتُ ابْنَ الْأَعْرَابِيِّ يَقُولُ: أَرَادَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ أَنْ أَجِدَ لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَصَبْتُ هَذَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَوْ كَانَ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى لَمْ يَخْتَصَّ بِالْعَرْشِ؛ لِأَنَّهُ غَالِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَنَقَلَ مُحْيِي السُّنَّةِ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَاهُ ارْتَفَعَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا بِنَحْوِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ إِيمَانٌ، وَالْجُحُودُ بِهِ كُفْرٌ وَمِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَعَلَى اللَّهِ الرِّسَالَةُ، وَعَلَى رَسُولِهِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: كُنَّا وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ، وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ، وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ فَقَالَ: هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ