للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فِي الْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا، انْتَهَى مُلَخَّصًا مُوَضَّحًا. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَوِيِّ وَهُوَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ يَقُولُ قَوْمٌ: إِلَى ثَوَابِهِ، فَقَالَ: كَذَبُوا فَأَيْنَ هُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ وَمِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَصِحُّ أَنْ يُرَى، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ وَإِلَّا فَصِفَاتُ الْخَالِقِ لَا تُقَاسُ عَلَى صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَدِلَّةُ السَّمْعِ طَافِحَةٌ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَمُنِعَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي نَبِيِّنَا وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنَّ أَبْصَارَ أَهْلِ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَاقِيَةٌ جَيِّدٌ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَنْ ثَبَتَ وُقُوعُهُ لَهُ، وَمَنَعَ جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ الرُّؤْيَةِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَرْئِيِّ أَنْ يَكُونَ فِي جِهَةٍ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَرَى عِبَادَهُ، فَهُوَ رَاءٍ لَا مِنْ جِهَةٍ، وَاخْتَلَفَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ فِي مَعْنَاهَا، فَقَالَ قَوْمٌ: يَحْصُلُ لِلرَّائِي الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَرْئِيَّاتِ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ إِلَّا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِهَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرُّؤْيَةِ الْعِلْمُ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا حُصُولُ حَالَةٍ فِي الْإِنْسَانِ نِسْبَتُهَا إِلَى ذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ نِسْبَةَ الْإِبْصَارِ إِلَى الْمَرْئِيَّاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِ لِلَّهِ نَوْعُ كَشْفٍ وَعِلْمٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَتَمُّ وَأَوْضَحُ مِنَ الْعِلْمِ، وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَتُعُقِّبَ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا اخْتِصَاصَ لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَفَاوَتُ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ تَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، تَقُولُ: رَأَيْتُ زَيْدًا فَقِيهًا، أَيْ: عَلِمْتُهُ، فَإِنْ قُلْتَ: رَأَيْتُ زَيْدًا مُنْطَلِقًا لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إِلَّا رُؤْيَةُ الْبَصَرِ، وَيَزِيدُهُ تَحْقِيقًا قَوْلُهُ فِي الْخَبَرِ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ الرُّؤْيَةِ بِالْعِيَانِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ، وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ إِلَى جَوَازِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَمَنَعَ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ الْمُرْجِئَةِ، وَتَمَسَّكُوا بِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تُوجِبُ كَوْنَ الْمَرْئِيِّ مُحْدَثًا وَحَالًّا فِي مَكَانٍ، وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ ﴿نَاظِرَةٌ﴾ بِمُنْتَظِرَةٍ وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِإِلَى، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَمَا تَمَسَّكُوا بِهِ فَاسِدٌ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْجُودٌ، وَالرُّؤْيَةُ فِي تَعَلُّقِهَا بِالْمَرْئِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْمَعْلُومِ، فَإِذَا كَانَ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ لَا يُوجِبُ حُدُوثَهُ فَكَذَلِكَ الْمَرْئِيُّ.

قَالَ: وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فِي الدُّنْيَا جَمْعًا بَيْنَ دَلِيلَيِ الْآيَتَيْنِ، وَبِأَنَّ نَفْيَ الْإِدْرَاكِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ لِإِمْكَانِ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِحَقِيقَتِهِ، وَعَنِ الثَّانِي: الْمُرَادُ: لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا جَمْعًا أَيْضًا؛ وَلِأَنَّ نَفْيَ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي إِحَالَتَهُ مَعَ مَا جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَلَى وَفْقِ الْآيَةِ، وَقَدْ تَلَقَّاهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْقَبُولِ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَتَّى حَدَثَ مَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ وَخَالَفَ السَّلَفَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اشْتَرَطَ النُّفَاةُ فِي الرُّؤْيَةِ شُرُوطًا عَقْلِيَّةً كَالْبِنْيَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَاتِّصَالِ الْأَشِعَّةِ وَزَوَالِ الْمَوَانِعِ كَالْبُعْدِ وَالْحَجْبِ فِي خَبْطٍ لَهُمْ وَتَحَكُّمٍ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يَشْتَرِطُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سِوَى وُجُودِ الْمَرْئِيِّ، وَأَنَّ الرُّؤْيَةَ إِدْرَاكٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلرَّائِي فَيَرَى الْمَرْئِيَّ، وَتَقْتَرِنُ بِهَا أَحْوَالٌ يَجُوزُ تَبَدُّلُهَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْبَابِ أَحَدَ عَشَرَ حَدِيثًا.

الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: حَدِيثُ جَرِيرٍ ذَكَرَهُ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.

قَوْلُهُ: (خَالِدٌ أَوْ هُشَيْمٌ) كَذَا فِي نُسْخَةٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْمُسْتَمْلِي بِالشَّكِّ، وَفِي أُخْرَى بِالْوَاوِ وَكَذَا لِلْبَاقِينَ.

قَوْلُهُ: (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ.

قَوْلُهُ: (عَنْ قَيْسٍ) هُوَ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَنُسِبَ فِي رِوَايَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْمُشَارِ إِلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (عَنْ جَرِيرٍ) فِي رِوَايَةِ مَرْوَانَ الْمَذْكُورَةِ: وَسَمِعْتُ