للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الرَّحْمَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى صِفَةِ ذَاتٍ، وَإِلَى صِفَةِ فِعْلٍ، وَهُنَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِفَةَ ذَاتٍ، فَيَكُونَ مَعْنَاهَا إِرَادَةُ إِثَابَةِ الطَّائِعِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِفَةَ فِعْلٍ، فَيَكُونَ مَعْنَاهَا أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ - بِسَوْقِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ لَهُمْ لِكَوْنِهِ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَنَحْوَ تَسْمِيَةِ الْجَنَّةِ رَحْمَةً لِكَوْنِهَا فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِ حَادِثَةً بِقُدْرَتِهِ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بَابُ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَتْبَعُ إِثْبَاتَ التَّدْبِيرِ لِلَّهِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ فَمِنْ ذَلِكَ: الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى الرَّحْمَنِ: ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي وَسِعَتِ الْخَلْقَ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَأَسْبَابِ مَعَايِشِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ، قَالَ: وَالرَّحِيمُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ وَقَالَ غَيْرُهُ: الرَّحْمَنُ خَاصٌّ فِي التَّسْمِيَةِ عَامٌّ فِي الْفِعْلِ، وَالرَّحِيمُ عَامٌّ فِي التَّسْمِيَةِ خَاصٌّ فِي الْفِعْلِ، انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي أَوَائِلِ التَّوْحِيدِ فِي بَابِ: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ وَتَكَلَّمَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ ف ي تَذْكِيرِ قَرِيبٍ مَعَ أَنَّهُ وَصْفُ الرَّحْمَةِ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَرِيبَةٌ وَبَعِيدَةٌ إِنْ أُرِيدَ بِهَا النَّسَبُ ثُبُوتًا وَنَفْيًا، فَتُؤَنَّثُ جَزْمًا، فَتَقُولُ فُلَانَةٌ قَرِيبَةٌ أَوْ لَيْسَتْ قَرِيبَةً لِي، فَإِنْ أُرِيدَ الْمَكَانُ جَازَ الْوَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ الْمَكَانِ فَتَقُولُ: فُلَانَةٌ قَرِيبَةٌ وَقَرِيبٌ إِذَا كَانَتْ فِي مَكَانٍ غَيْرِ بَعِيدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

عَشِيَّةٌ لَا عَفْرَاءَ مِنْكَ قَرِيبَةٌ … فَتَدْنُوا وَلَا عَفْرَاءَ مِنْكَ بَعِيدُ

وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقِيسِ:

لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا … أُمُّ سَالِمٍ، قَرِيبٌ الْبَيْتَ،

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ سَبِيلُ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ أَنْ يَجْرِيَا عَلَى أَفْعَالِهِمَا فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّهُ رَدُّ الْجَائِزِ بِالْمَشْهُورِ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا﴾ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَرِيبٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ لَيْسَ وَصْفًا لِلرَّحْمَةِ، إِنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ لَهَا فَجَازَ فِيهِ التَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ، وَيَصْلُحُ لِلْجَمْعِ وَالْمُثَنَّى وَالْمُفْرَدِ، وَلَوْ أُرِيدَ بِهَا الصِّفَةُ لَوَجَبَتِ الْمُطَابَقَةُ، وَتَعَقَّبَهُ الْأَخْفَشُ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَرْفًا لَنُصِبَتْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ يَتَّسِعُ فِي الظَّرْفِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ أُخْرَى مُتَقَارِبَةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَقْوَاهَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فَقِيلَ: هِيَ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: شَيْءٌ قَرِيبٌ، وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ بِمَعْنَى الْغُفْرَانِ أَوِ الْعَفْوِ أَوِ الْمَطَرِ أَوِ الْإِحْسَانِ حُمِلَتْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: الرُّحْمُ بِالضَّمَّةِ وَالرَّحْمَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَذُكِّرَ بِاعْتِبَارِ الرُّحْمِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهَا ذَاتُ قُرْبٍ كَقَوْلِهِمْ حَائِضٌ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ حَيْضٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ كَنَقِيقٍ لِصَوْتِ الضِّفْدَعِ، وَقِيلَ: لَمَّا كَانَ وَزْنُهُ وَزْنَ الْمَصْدَرِ نَحْوَ زَفِيرٍ وَشَهِيقٍ أُعْطِيَ حُكْمَهُ فِي اسْتِوَاءِ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَقِيلَ: إِنَّ الرَّحْمَةَ بِمَعْنَى مَفْعَلَةٍ فَتَكُونُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَفَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَثِيرٍ، وَقِيلَ: أَعْطَى فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ حُكْمَ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ التَّأْنِيثِ الْمَجَازِيِّ كَطَلَعَ الشَّمْسُ، وَبِهَذَا

جَزَمَ ابْنُ التِّينِ، وَتَعَقَّبُوهُ بِأَنَّ شَرْطَهُ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ، وَهُنَا جَاءَ الْفِعْلُ مُتَأَخِّرًا فَلَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْجَوَازَ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ:

أَحَدُهَا: حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَقَوْلُهُ إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ فِيهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الرَّحْمَةِ لَهُ وَهُوَ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ.

ثَانِيهَا: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: اخْتَصَمَتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَيَعْقُوبُ فِي سَنَدِهِ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْخَامِسِ مِنَ الْبَابِ قَبْلَهُ، وَالْأَعْرَجُ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيْسَ لِصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ.

قَوْلُهُ: (اخْتَصَمَتْ) فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي سُورَةِ ق تَحَاجَّتْ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ احْتَجَّتْ، وَكَذَا لَهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ