للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

يَحْتَاجُ إِلَى التَّفَرُّقِ كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ: مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي حَصْرِ لُزُومِ الْبَيْعِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَقَدْ مَضَى قَبْلُ بِبَابٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمَا مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ قَالَ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا وَجَبَتِ الصَّفْقَةُ فَلَا خِيَارَ وَبِذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَّا ابْنَ حَبِيبٍ وَالْحَنَفِيَّةَ كُلَّهُمْ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: لَا نَعْلَمُ لَهُمْ سَلَفًا إِلَّا إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، وَقَدْ ذَهَبُوا فِي الْجَوَابِ عَنْ حَدِيثَيِ الْبَابِ فَرْقًا: فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ لِكَوْنِهِ مُعَارِضًا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ وَلَكِنْ أَوَّلَهُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ وَالْخِيَارُ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ، وَبِحَدِيثِ التَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحَاجَةَ إِلَى الْيَمِينِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ لُزُومَ الْعَقْدِ، وَلَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لَكَانَ كَافِيًا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾

وَالْإِشْهَادُ إِنْ وَقَعَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يُطَابِقِ الْأَمْرَ، وَإِنْ وَقَعَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ مَهْمَا أَمْكَنَ لَا يُصَارُ مَعَهُ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِغَيْرِ تَعَسُّفٍ وَلَا تَكَلُّفٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَقَدْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَالرَّاوِي إِذَا عَمِلَ بِخِلَافِ مَا رَوَى دَلَّ عَلَى وَهْنِ الْمَرْوِيِّ عِنْدَهُ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مَالِكًا لَمْ يَتَفَرَّدْ بِهِ، فَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ وَعَمِلَ بِهِ وَهُمْ أَكْثَرُ عَدَدًا رِوَايَةً وَعَمَلًا، وَقَدْ خَصَّ كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِي أَهْلِ الْأُصُولِ الْخِلَافَ الْمَشْهُورَ - فِيمَا إِذَا عَمِلَ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى - بِالصَّحَابَةِ دُونَ مَا جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَمِنْ قَاعِدَتِهِمْ أَنَّ الرَّاوِيَ أَعْلَمُ بِمَا رَوَى، وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي الْخَبَرِ وَكَانَ يُفَارِقُ إِذَا بَاعَ بِبَدَنِهِ فَاتِّبَاعُهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مُعَارَضٌ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ عَنْ أَشْهَبَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِعَمَلِ أَهْلِ مَكَّةَ أَيْضًا.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قَالَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ، ثُمَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ الزُّهْرِيُّ، ثُمَّ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ كَمَا مَضَى، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَعْصَارِهِمْ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ سِوَى عَنْ رَبِيعَةَ.

وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْقَوْلَ بِخِلَافِهِ، فَقَدْ سَبَقَ عَنْ عَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنِ الْعَرَبِيِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَالِكًا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ لِكَوْنِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ مَالِكٌ لِأَنَّ وَقْتَ التَّفَرُّقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ بُيُوعَ الْغَرَرِ كَالْمُلَامَسَةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَقُولُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَلَا يَحُدُّهُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْغَرَرِ مَوْجُودٌ فِيهِ، وَبِأَنَّ الْغَرَرَ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ مَعْدُومٌ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ فَسْخِهِ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ فَلَا غَرَرَ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ خَبَرُ وَاحِدٍ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ إِلَّا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَشْهُورٌ فَيُعْمَلُ بِهِ كَمَا ادَّعَوْا نَظِيرَ ذَلِكَ فِي خَبَرِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَإِيجَابِ الْوِتْرِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فِي إِلْحَاقِ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِمَا بَعْدَهُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ. وَقَالَ آخَرُونَ: التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ تَحْسِينًا لِلْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُسْلِمِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِالتَّفَرُّقِ فِي الْحَدِيثِ التَّفَرُّقُ بِالْكَلَامِ كَمَا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ وَالْعِتْقِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ ظُهُورِ الْفَارِقِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُنْقَلُ فِيهِ مِلْكُ رَقَبَةِ الْمَبِيعِ وَمَنْفَعَتُهُ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: سَوَاءٌ قُلْنَا التَّفَرُّقُ بِالْكَلَامِ أَوْ بِالْأَبْدَانِ فَإِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ثَابِتٌ، أَمَّا حَيْثُ