اسْتِفْهَامٌ ثَانٍ حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ ﷺ بِحِمْصَ وَالنَّاسُ يَسْأَلُونَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَنَا غُلَامٌ فَقُلْتُ: أَنْتَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: شَيْخٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَمْ شَابٌّ؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فَقُلْتُ لَهُ: أَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ صَبَغَ؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (قَالَ كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ) فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِنَّمَا كَانَتْ شَعَرَاتٌ بِيضٌ. وَأَشَارَ إِلَى عَنْفَقَتِهِ وَسَيَأْتِي بَعْدَ حَدِيثَيْنِ قَوْلُ أَنَسٍ: إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ وَسَيَأْتِي وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ حَدِيثُ أَنَسٍ مِنْ رِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرُّوخَ الْفَقِيهُ الْمَدَنِيُّ الْمَعْرُوفُ بِرَبِيعَةِ الرَّأْيِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ، وَهُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجُمَحِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ لَكِنَّهُ مَاتَ قَبْلَهُ، وَقَدْ أَكْثَرَ عَنْهُ اللَّيْثُ.
قَوْلُهُ: (كَانَ رَبْعَةً) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ مَرْبُوعًا، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِ، يُقَالُ: رَجُلٌ رَبْعَةٌ وَامْرَأَةٌ رَبْعَةٌ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ وَالْمُرَادُ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ الْمُفْرِطُ فِي الطُّولِ مَعَ اضْطِرَابِ الْقَامَةِ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بَعْدَ قَلِيلٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مَرْبُوعًا وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الذُّهْلِيِّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَانَ رَبْعَةً وَهُوَ إِلَى الطُّولِ أَقْرَبُ.
قَوْلُهُ: (أَزْهَرَ اللَّوْنِ) أَيْ أَبْيَضُ مُشَرَّبٌ بِحُمْرَةٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَعِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَالطَّيَالِسِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَبْيَضَ مُشَرَّبًا بَيَاضُهُ بِحُمْرَةٍ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ جَابِرٍ، وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَفِي الشَّمَائِلِ مِنْ حَدِيثِ هِنْدِ بْنِ أَبِي هَالَةَ أَنَّهُ أَزْهَرُ اللَّوْنِ.
قَوْلُهُ: (لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ) كَذَا فِي الْأُصُولِ، وَوَقَعَ عِنْدَ الدَّاوُدِيِّ تَبَعًا لِرِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ أَمْهَقُ لَيْسَ بِأَبْيَضَ وَاعْتَرَضَهُ الدَّاوُدِيُّ، وَقَالَ عِيَاضٌ: إِنَّهُ وَهْمٌ، قَالَ: وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ لَيْسَ بِالْأَبْيَضِ وَلَا الْآدَمِ لَيْسَ بِصَوَابٍ، كَذَا قَالَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ فِي هَذَا الثَّانِي، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ بِالْأَبْيَضِ الشَّدِيدِ الْبَيَاضِ وَلَا بِالْآدَمِ الشَّدِيدِ الْأُدْمَةِ، وَإِنَّمَا يُخَالِطُ بَيَاضَهُ الْحُمْرَةُ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُطْلِقُ عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ أَسْمَرَ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالْبَزَّارِ، وَابْنِ مَنْدَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ أَسْمَرَ وَقَدْ رَدَّ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِقَوْلِهِ: فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ: وَلَا بِالْأَبْيَضِ الْأَمْهَقِ وَلَيْسَ بِالْآدَمِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ الصِّفَةَ النَّبَوِيَّةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ ﷺ أَبْيَضَ بَيَاضُهُ إِلَى السُّمْرَةِ.
وَفِي حَدِيثِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جِسْمُهُ وَلَحْمُهُ أَحْمَرُ وَفِي لَفْظٍ أَسْمَرَ إِلَى الْبَيَاضِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.
وَتَبَيَّنَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّمْرَةِ الْحُمْرَةُ الَّتِي تُخَالِطُ الْبَيَاضَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَاضِ الْمُثْبَتِ مَا يُخَالِطُهُ الْحُمْرَةُ، وَالْمَنْفِيُّ مَا لَا يُخَالِطُهُ، وَهُوَ الَّذِي تَكْرَهُ الْعَرَبُ لَوْنَهُ وَتُسَمِّيهِ أَمْهَقَ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ رِوَايَةَ الْمَرْوَزِيِّ أَمْهَقَ لَيْسَ بِأَبْيَضَ مَقْلُوبَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْهَقِ الْأَخْضَرُ اللَّوْنِ الَّذِي لَيْسَ بَيَاضُهُ فِي الْغَايَةِ وَلَا سُمْرَتُهُ وَلَا حُمْرَتُهُ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ الْمَهَقَ خُضْرَةُ الْمَاءِ، فَهَذَا التَّوْجِيهُ يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ إِطْلَاقُ كَوْنِهِ أَبْيَضَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي الطُّفَيْلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ مَا أَنْسَى شِدَّةَ بَيَاضِ وَجْهِهِ مَعَ شِدَّةِ سَوَادِ شَعْرِهِ وَكَذَا فِي شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ.
وَفِي حَدِيثِ سُرَاقَةَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَجَعَلْتُ