للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حِكْمَةٌ، فَالْأَوَّلُ وَقَعَ فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: فَأَخْرَجَ عَلْقَمَةُ فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، وَكَانَ هَذَا فِي زَمَنِ الطُّفُولِيَّةِ، فَنَشَأَ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْعِصْمَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ وَقَعَ شَقُّ الصَّدْرِ عِنْدَ الْبَعْثِ زِيَادَةً فِي إِكْرَامِهِ لِيَتَلَقَّى مَا يُوحَى إِلَيْهِ بِقَلْبٍ قَوِيٍّ فِي أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ مِنَ التَّطْهِيرِ، ثُمَّ وَقَعَ شَقُّ الصَّدْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْعُرُوجِ إِلَى السَّمَاءِ لِيَتَأَهَّبَ لِلْمُنَاجَاةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْغَسْلِ لِتَقَعَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِسْبَاغِ بِحُصُولِ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي شَرْعِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِي انْفِرَاجِ سَقْفِ بَيْتِهِ الْإِشَارَةَ إِلَى مَا سَيَقَعُ مِنْ شَقِّ صَدْرِهِ، وَأَنَّهُ سَيَلْتَئِمُ بِغَيْرِ مُعَالَجَةٍ يَتَضَرَّرُ بِهَا.

وَجَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ شَقِّ الصَّدْرِ وَاسْتِخْرَاجِ الْقَلْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ مِمَّا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ دُونَ التَّعَرُّضِ لِصَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِصَلَاحِيَّةِ الْقُدْرَةِ، فَلَا يَسْتَحِيلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ: لَا يُلْتَفَتُ لِإِنْكَارِ الشَّقِّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ؛ لِأَنَّ رُوَاتَهُ ثِقَاتٌ مَشَاهِيرُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (بِطَسْتٍ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَبِكَسْرِهِ وَبِمُثَنَّاةٍ، وَقَدْ تُحْذَفُ - وَهُوَ الْأَكْثَرُ - وَإِثْبَاتُهَا لُغَةُ طَيِّئٍ، وَأَخْطَأَ مَنْ أَنْكَرَهَا.

قَوْلُهُ: (مِنْ ذَهَبٍ) خُصَّ الطَّسْتُ لِكَوْنِهِ أَشْهَرَ آلَاتِ الْغُسْلِ عُرْفًا، وَالذَّهَبُ لِكَوْنِهِ أَعْلَى أَنْوَاعِ الْأَوَانِي الْحِسِّيَّةِ وَأَصْفَاهَا، وَلِأَنَّ فِيهِ خَوَاصَّ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ وَيَظْهَرُ لَهَا هُنَا مُنَاسَبَاتٌ: مِنْهَا أَنَّهُ مِنْ أَوَانِي الْجَنَّةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا تَأْكُلُهُ النَّارُ وَلَا التُّرَابُ وَلَا يَلْحَقُهُ الصَّدَأُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَثْقَلُ الْجَوَاهِرِ فَنَاسَبَ ثِقَلَ الْوَحْيِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنْ نُظِرَ إِلَى لَفْظِ الذَّهَبِ نَاسَبَ مِنْ جِهَةِ إِذْهَابِ الرِّجْسِ عَنْهُ، وَلِكَوْنِهِ وَقَعَ عِنْدَ الذَّهَابِ إِلَى رَبِّهِ، وَإِنْ نُظِرَ إِلَى مَعْنَاهُ فَلِوَضَاءَتِهِ وَنَقَائِهِ وَصَفَائِهِ وَلِثِقَلِهِ وَرَسُوبَتِهِ، وَالْوَحْيُ ثَقِيلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا﴾، ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ وَلِأَنَّهُ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَالْقَوْلُ هُوَ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَحْرُمَ اسْتِعْمَالُ الذَّهَبِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُسْتَعْمِلَ لَهُ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ لَنُزِّهَ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ غَيْرُهُ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ الْمُكَرَّمِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَحْرِيمَ اسْتِعْمَالِهِ مَخْصُوصٌ بِأَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَمَا وَقَعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَانَ الْغَالِبُ أَنَّهُ مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ فَيَلْحَقُ بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ.

قَوْلُهُ: (مَمْلُوءَةٍ) كَذَا بِالتَّأْنِيثِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ الْبَحْثُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (إِيمَانًا) زَادَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: وَحِكْمَةً، وَهُمَا بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيزِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الطَّسْتَ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ يَحْصُلُ بِهِ زِيَادَةٌ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الْحِكْمَةِ، وَهَذَا الْمَلْءُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَتَجْسِيدُ الْمَعَانِي جَائِزٌ كَمَا جَاءَ أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهَا ظُلَّةٌ، وَالْمَوْتُ فِي صُورَةِ كَبْشٍ، وَكَذَلِكَ وَزْنُ الْأَعْمَالِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ، إِذْ تَمْثِيلُ الْمَعَانِي قَدْ وَقَعَ كَثِيرًا، كَمَا مُثِّلَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فِي عُرْضِ الْحَائِطِ، وَفَائِدَتُهُ كَشْفُ الْمَعْنَوِيِّ بِالْمَحْسُوسِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: فِيهِ أَنَّ الْحِكْمَةَ لَيْسَ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَجَلُّ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ قُرِنَتْ مَعَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ أَنَّهَا وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ، أَوِ الْفَهْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي قَدْ تُوجَدُ الْحِكْمَةُ دُونَ الْإِيمَانِ وَقَدْ لَا تُوجَدُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَقَدْ يَتَلَازَمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَدُلُّ عَلَى الْحِكْمَةِ.

قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ قَلْبِي) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ وَفِيهِ فَضِيلَةُ مَاءِ زَمْزَمَ عَلَى جَمِيعِ الْمِيَاهِ، قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: وَإِنَّمَا لَمْ يُغْسَلْ بِمَاءِ الْجَنَّةِ لِمَا اجْتَمَعَ فِي مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ كَوْنِ أَصْلِ مَائِهَا مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ اسْتَقَرَّ فِي الْأَرْضِ، فَأُرِيدَ بِذَلِكَ بَقَاءُ بَرَكَةِ النَّبِيِّ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمَّا كَانَتْ زَمْزَمُ هَزْمَةَ جِبْرِيلَ رُوحِ الْقُدْسِ لِأُمِّ إِسْمَاعِيلَ جَدِّ النَّبِيِّ نَاسَبَ أَنْ يُغْسَلَ عِنْدَ دُخُولِ حَضْرَةِ الْقُدْسِ وَمُنَاجَاتِهِ وَمِنَ