الْقِيَاسَ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: قِيَاسُ قَدْرِ الصَّدَاقِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ إِنَّمَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارٍ نَكَالًا لِلْمَعْصِيَةِ، وَالنِّكَاحُ مُسْتَبَاحٌ بِوَجْهٍ جَائِزٍ، وَنَحْوُهُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَخَّارِ مِنْهُمْ. نَعَمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا﴾ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَدَاقَ الْحُرَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ مَالٍ لَهُ قَدْرٌ لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَهْرِ الْأَمَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ﴾ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ مَا يُسَمَّى مَالًا فِي الْجُمْلَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَقَدْ حَدَّهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى نِصَابِ السَّرِقَةِ، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ رَدُّهُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَزْنُ الْخَاتَمِ مِنَ الْحَدِيدِ لَا يُسَاوِي رُبْعَ دِينَارٍ، وَهُوَ مِمَّا لَا جَوَابَ عَنْهُ وَلَا عُذْرَ فِيهِ، لَكِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا نَظَرُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا﴾ فَمَنَعَ اللَّهُ الْقَادِرَ عَلَى الطَّوْلِ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ، فَلَوْ كَانَ الطَّوْلُ دِرْهَمًا مَا تَعَذَّرَ عَلَى أَحَدٍ. ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ كَذَلِكَ، يَعْنِي فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِلتَّحْدِيدِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِالطَّوْلِ.
وَفِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ فِي النِّكَاحِ خَاصَّةٌ بِالنَّبِيِّ ﷺ؛ لِقَوْلِ الرَّجُلِ: زَوِّجْنِيهَا وَلَمْ يَقُلْ: هَبْهَا لِي. وَلِقَوْلِهَا هِيَ: وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ وَسَكَتَ ﷺ عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ لَهُ خَاصَّةً، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وَفِيهِ جَوَازُ انْعِقَادِ نِكَاحِهِ ﷺ بِلَفْظِ الْهِبَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْآخَرُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ النِّكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ. وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ يُزَوِّجُ مَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ خَاصٌّ لِمَنْ يَرَاهُ كُفُؤًا لَهَا وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِذَلِكَ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: لَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَهَا وَلَا أَنَّهَا وَكَلَّتْهُ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾؛ يَعْنِي فَيَكُونُ خَاصًّا بِهِ ﷺ أَنَّهُ يُزَوِّجُ مَنْ شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِهَا لِمَنْ شَاءَ، وَبِنَحْوِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ. وَأَجَابَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ لَهُ: وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ كَانَ كَالْإِذْنِ مِنْهَا فِي تَزْوِيجِهَا لِمَنْ أَرَادَ؛ لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ حَقِيقَةً، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى جَعَلْتُ لَكَ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي تَزْوِيجِي اهـ.
وَلَوْ رَاجَعَا حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَا احْتَاجَا إِلَى هَذَا التَّكَلُّفِ، فَإِنَّ فِيهِ كَمَا قَدَّمْتُهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ هَذَا إِنْ رَضِيتِ، فَقَالَتْ: مَا رَضِيتَ لِي فَقَدْ رَضِيتُ.
وَفِيهِ جَوَازُ تَأَمُّلِ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ لِإِرَادَةِ تَزْوِيجِهَا وَإِنْ لَمْ تَتَقَدَّمِ الرَّغْبَةُ فِي تَزْوِيجِهَا وَلَا وَقَعَتْ خِطْبَتُهَا؛ لِأَنَّهُ ﷺ صَعَّدَ فِيهَا النَّظَرَ وَصَوَّبَهُ، وَفِي الصِّيغَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ رَغْبَةٌ فِيهَا وَلَا خِطْبَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ إِذَا رَأَى مِنْهَا مَا يُعْجِبُهُ أَنَّهُ يَقْبَلُهَا مَا كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَأَمُّلِهَا فَائِدَةٌ. وَيُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِدَعْوَى الْخُصُوصِيَّةِ لَهُ لِمَحَلِّ الْعِصْمَةِ. وَالَّذِي تَحَرَّرَ عِنْدَنَا أَنَّهُ ﷺ كَانَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَى الْمُؤْمِنَاتِ الْأَجْنَبِيَّاتِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَسَلَكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْجَوَابِ مَسْلَكًا آخَرَ فَقَالَ: يَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ الْحِجَابِ، أَوْ بَعْدَهُ لَكِنْهَا كَانَتْ مُتَلَفِّفَةً، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُبْعِدُ مَا قَالَ.
وَفِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ: وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ وَلَمْ يَقُلْ قَبِلْتُ لَمْ يَتِمَّ مَقْصُودُهَا وَلَوْ قَبِلَهَا لَصَارَتْ زَوْجًا لَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى الْقَائِلِ زَوِّجْنِيهَا، وَفِيهِ جَوَازُ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ مَنْ خَطَبَ إِذَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا رُكُونٌ وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَاحَتْ مَخَايِلُ الرَّدِّ، قَالَهُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهَا خِطْبَةٌ لِأَحَدٍ وَلَا مَيْلٌ، بَلْ هِيَ أَرَادَتْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ ﷺ فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا مَجَّانًا مُبَالَغَةً مِنْهَا فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا فَلَمْ يَقْبَلْ، وَلَمَّا قَالَ: لَيْسَ لِي حَاجَةٌ فِي النِّسَاءِ عَرَفَ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْهَا فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا، ثُمَّ بَالَغَ فِي الِاحْتِرَازِ فَقَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ تَصْرِيحِهِ بِنَفْيِ الْحَاجَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَدْعُوهُ إِلَى إِجَابَتِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى وُفُورِ فِطْنَةِ الصَّحَابِيِّ الْمَذْكُورِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبَاجِيُّ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute