(كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ) كَذَا فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ حِجَابًا وَهُوَ بِمَعْنَاهُ. وَفِي الْحَدِيثِ تَأْكِيدُ حَقِّ الْبَنَاتِ لِمَا فِيهِنَّ مِنَ الضَّعْفِ غَالِبًا عَنِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ أَنْفُسِهِنَّ، بِخِلَافِ الذُّكُورِ لِمَا فِيهِمْ مِنْ قُوَّةِ الْبَدَنِ وَجَزَالَةِ الرَّأْي وَإِمْكَانِ التَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَفِيهِ جَوَازُ سُؤَالِ الْمُحْتَاجِ، وَسَخَاءِ عَائِشَةَ لِكَوْنِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَّا تَمْرَةً فَآثَرَتْ بِهَا، وَأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يَمْتَنِعُ التَّصَدُّقُ بِهِ لِحَقَارَتِهِ، بَلْ يَنْبَغِي لِلْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَعْرُوفِ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْفَخْرِ وَلَا الْمِنَّةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِابْنِ بَطَّالٍ: إِنَّمَا سَمَّاهُ ابْتِلَاءً لِأَنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَ الْبَنَاتَ، فَجَاءَ الشَّرْعُ بِزَجْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَرَغَّبَ فِي إِبْقَائِهِنَّ وَتَرْكِ قَتْلِهِنَّ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الثَّوَابِ الْمَوْعُودِ بِهِ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِنَّ. وَقَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ هُنَا الِاخْتِبَارَ، أَيْ مَنِ اخْتُبِرَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَنَاتِ لِيُنْظَرَ مَا يَفْعَلُ أَيُحْسِنُ إِلَيْهِنَّ أَوْ يُسِيءُ، وَلِهَذَا قَيَّدَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِالتَّقْوَى، فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَّقِي اللَّهَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَتَضَجَّرَ بِمَنْ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ يُقْصِرُ عَمَّا أُمِرَ بِفِعْلِهِ، أَوْ لَا يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ وَتَحْصِيلَ ثَوَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الحديث الثالث، قَوْلُهُ (وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ) أَيِ ابْنُ الرَّبِيعِ، وَهِيَ ابْنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ ﷺ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَ) كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ، وَلِلْكُشْمِيهَنِيِّ وَضَعَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ فِي أَبْوَابِ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي، وَوَقَعَ هُنَا بِلَفْظِ رَكَعَ وَهُنَاكَ بِلَفْظِ سَجَدَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَبِهَذَا تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِلتَّرْجَمَةِ، وَهُوَ رَحْمَةُ الْوَلَدِ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ وَلَدٌ. وَمِنْ شَفَقَتِهِ ﷺ وَرَحْمَتُهُ لِأُمَامَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَكَعَ أَوْ سَجَدَ يَخْشَى عَلَيْهَا أَنْ تَسْقُطَ فَيَضَعُهَا بِالْأَرْضِ وَكَأَنَّهَا كَانَتْ لِتَعَلُّقِهَا بِهِ لَا تَصبرُ فِي الْأَرْضِ فَتَجْزَعُ مِنْ مُفَارَقَتِهِ، فَيَحْتَاجُ أَنْ يَحْمِلَهَا إِذَا قَامَ. وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ عِظَمَ قَدْرِ رَحْمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ تُعَارِضُ حِينَئِذٍ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْخُشُوعِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَى مُرَاعَاةِ خَاطِرِ الْوَلَدِ فَقَدَّمَ الثَّانِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ﷺ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ قَوْلُهُ: (إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ) كَذَا فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ، وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرٍ فَرَّقَهُمَا كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَوْلُهُ: (وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَسَبُ الْأَقْرَعِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ، وَهُوَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَمِمَّنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ.
قَوْلُهُ: (إِنَّ لِي عَشْرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي رِوَايَتِهِ مَا قَبَّلْتُ إِنْسَانًا قَطُّ.
قَوْلُهُ: (مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ) هُوَ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى الْخَبَرِ، وَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ لِلْأَكْثَرِ، وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ مَنْ مَوْصُولَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً فَيُقْرَأُ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: جَعْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ أَشْبَهُ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ سِيقَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ إِلَخْ أَيِ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ لَا يُرْحَمُ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً لَكَانَ فِي الْكَلَامِ بَعْضُ انْقِطَاعٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَجَوَابُهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. قُلْتُ: وَهُوَ أَوْلَى مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ نَوْعِ ضَرْبِ الْمَثَلِ، وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهَا مَوْصُولَةً لِكَوْنِ الشَّرْطِ إِذَا أَعْقَبَهُ نَفْيٌ يُنْفَى غَالِبًا بِلَمْ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَرْجِيحًا إِذَا كَانَ الْمَقَامُ لَائِقًا بِكَوْنِهَا شَرْطِيَّةً. وَأَجَازَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَشَارِقِ الرَّفْعَ فِي الْجُزْءيْنِ وَالْجَزْمَ فِيهِمَا وَالرَّفْعَ فِي الْأُولَى وَالْجَزْمَ فِي الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ فَيَحْصُلُ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، وَاسْتُبْعِدَ الثَّالِثُ، وَوُجِّهَ بِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الثَّانِي بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ لَا تَرْحَمُوا مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَظَاهِرٌ وَتَقْدِيرُهُ مَنْ لَا يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ فَإِنَّهُ لَا يُرْحَمُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَقُلْتُ لَهُ احْمِلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إِنَّهَا … مُطَوَّقَةٌ مَنْ يَأْتِهَا لَا يَضِيرُهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute