للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مُفَسِّرًا لِلْآيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ ادْخُلُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ لَكُمْ وَتَفَضُّلِهِ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّ اقْتِسَامَ مَنَازِلِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ، وَكَذَا أَصْلُ دُخُولِ الْجَنَّةِ هُوَ بِرَحْمَتِهِ حَيْثُ أَلْهَمَ الْعَامِلِينَ مَا نَالُوا بِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ مُجَازَاتِهِ لِعِبَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، وَقَدْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمُ ابْتِدَاءً بِإِيجَادِهِمْ ثُمَّ بِرِزْقِهِمْ ثُمَّ بِتَعْلِيمِهِمْ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: طَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّ الْحَدِيثَ فَسَّرَ مَا أُجْمِلَ فِي الْآيَةِ، فَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ الْأَخِيرِ، وَأَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَوْفِيقُهُ لِلْعَمَلِ وَهِدَايَتُهُ لِلطَّاعَةِ، وكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: يَتَحَصَّلُ عَنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْعَمَلِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَوْلَا رَحْمَتُ اللَّهِ السَّابِقَةُ مَا حَصَلَ الْإِيمَانُ وَلَا الطَّاعَةُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا النَّجَاةُ. الثَّانِي: أَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ فَعَمَلُهُ مُسْتَحَقٌّ لِمَوْلَاهُ، فَمَهْمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَزَاءِ فَهُوَ مِنْ فَضْلِهِ. الثَّالِثُ: جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ نَفْسَ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَاقْتِسَامَ الدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ. الرَّابِعُ: أَنَّ أَعْمَالَ الطَّاعَاتِ كَانَتْ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، وَالثَّوَابُ لَا يَنْفَدُ فَالْإِنْعَامُ الَّذِي لَا يَنْفَدُ فِي جَزَاءِ مَا يَنْفَدُ بِالْفَضْلِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ.

وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لَيْسَت لِلسَّبَبِيَّةِ؛ بَلْ لِلْإِلْصَاقِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ، أَيْ أُورِثْتُمُوهَا مُلَابَسَةً أَوْ مُصَاحَبَةً، أَوْ لِلْمُقَابَلَةِ نَحْوَ أُعْطِيتُ الشَّاةَ بِالدِّرْهَمِ، وَبِهَذَا الْأَخِيرِ جَزَمَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي فَسَبَقَ إِلَيْهِ فَقَالَ: تَرِدُ الْبَاءُ لِلْمُقَابَلَةِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَعْوَاضِ، كَاشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ، وَمِنْهُ: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وَإِنَّمَا لَمْ تُقَدَّرْ هُنَا لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، وَكَمَا قَالَ الْجَمِيعُ فِي: لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ بِعِوَضٍ قَدْ يُعْطِي مَجَّانًا بِخِلَافِ الْمُسَبَّبِ فَلَا يُوجَدُ بِدُونِ السَّبَبِ، قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ يَنْتَفِي التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ.

قُلْتُ: سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ فِي كِتَابِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: الْبَاءُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلدُّخُولِ غَيْرُ الْبَاءِ الْمَاضِيَةِ، فَالْأُولَى السَّبَبِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ سَبَبُ الدُّخُولِ الْمُقْتَضِيَةُ لَهُ كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَالثَّانِيَةُ: بِالْمُعَاوَضَةِ نَحْوَ اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بِكَذَا، فَأَخْبَرَ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ أَحَدٍ، وَأَنَّهُ لَوْلَا رَحْمَتُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ لَمَا أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمُجَرَّدِهِ وَلَوْ تَنَاهَى لَا يُوجِبُ بِمُجَرَّدِهِ دُخُولَ الْجَنَّةِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لَهَا؛ لِأَنَّهُ وَلَوْ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ لَا يُقَاوِمُ نِعْمَةَ اللَّهِ؛ بَلْ جَمِيعُ الْعَمَلِ لَا يُوَازِي نِعْمَةً وَاحِدَةً، فَتَبْقَى سَائِرُ نِعَمِهِ مُقْتَضِيَةً لِشُكْرِهَا وَهُوَ لَمْ يُوَفِّهَا حَقَّ شُكْرِهَا، فَلَوْ عَذَّبَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَعَذَّبَهُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ، وَإِذَا رَحِمَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي ذِكْرِ الْقَدَرِ فَفِيهِ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمُ، الْحَدِيثَ، قَالَ: وَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ مَعَ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ سَبَبًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ عِوَضُ الْعَمَلِ، وَأَنَّهَا ثَمَنُهُ، وَأَنَّ دُخُولَهَا بِمَحْضِ الْأَعْمَالِ، وَالْحَدِيثُ يُبْطِلُ دَعْوَى الطَّائِفَتَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قُلْتُ: وَجَوَّزَ الْكَرْمَانِيُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الدُّخُولَ لَيْسَ بِالْعَمَلِ، وَالْإِدْخَالُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْإِرْثِ بِالْعَمَلِ، وَهَذَا إِنْ مَشَى فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لَمْ يَمْشِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وَيَظْهَرُ لِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلٌ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْعَامِلُ دُخُولَ الْجَنَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمْرُ الْقَبُولِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ لِمَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾؛ أَيْ تَعْمَلُونَهُ مِنَ الْعَمَلِ الْمَقْبُولِ، وَلَا يَضُرُّ بَعْدَ هَذَا أَنْ تَكُونَ