الْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ أَوْ لِلْإِلْصَاقِ أَوِ الْمُقَابَلَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ سَبَبِيَّةً.
ثُمَّ رَأَيْتُ النَّوَوِيَّ جَزَمَ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَاتِ أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ الْأَعْمَالِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَدِيثِ أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْأَعْمَالِ وَالْهِدَايَةَ لِلْإِخْلَاصِ فِيهَا وَقَبُولَهَا إِنَّمَا هُوَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ، فَيَصِحُّ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ، وَهُوَ مُرَادُ الْحَدِيثِ، وَيَصِحُّ أَنَّهُ دَخَلَ بِسَبَبِ الْعَمَلِ وَهُوَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
وَرَدَّ الْكَرْمَانِيُّ الْأَخِيرَ بِأَنَّهُ خِلَافُ صَرِيحِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ إِلَى أَنَّ إِثَابَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - مَنْ أَطَاعَهُ بِفَضْلٍ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ انْتِقَامُهُ مِمَّنْ عَصَاهُ بِعَدْلٍ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ وَاحدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَلَهُ ﷾ أَنْ يُعَذِّبَ الطَّائِعَ وَيُنَعِّمَ الْعَاصِيَ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَخَبَرُهُ صِدْقٌ لَا خُلْفَ فِيهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُقَوِّي مَقَالَتَهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ أَثْبَتُوا بِعُقولِهِمْ أَعْوَاضَ الْأَعْمَالِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ خَبْطٌ كَثِيرٌ وَتَفْصِيلٌ طَوِيلٌ.
قَوْلُهُ: (قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ)؟ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَقَالَ رَجُلٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ الْقَائِلِ قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: إِذَا كَانَ كُلُّ النَّاسِ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ فَوَجْهُ تَخْصِيصِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالذِّكْرِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَقْطُوعًا لَهُ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ فَغَيْرُهُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. قُلْتُ: وَسَبَقَ إِلَى تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى الرَّافِعِيُّ فِي أَمَالِيهِ فَقَالَ: لَمَّا كَانَ أَجْرُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الطَّاعَةِ أَعْظَمَ وَعَمَلُهُ فِي الْعِبَادَةِ أَقَوْمَ قِيلَ لَهُ: وَلَا أَنْتَ؛ أَيْ لَا يُنَجِّيكَ عَمَلُكَ مَعَ عِظَمِ قَدْرِهِ، فَقَالَ: لَا إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ، وَقَدْ وَرَدَ جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ بِعَيْنِهِ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بِلَفْظِ: لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ وَلَا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا أَنَا إِلَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ) فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَنِي.
قَوْلُهُ: (بِرَحْمَةٍ) فِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ: بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ: بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ: بِرَحْمَةٍ وَفَضْلٍ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ: مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ: بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ بِيَدِهِ هَكَذَا: وَأَشَارَ عَلَى رَأْسِهِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ مَعْنَى يَتَغَمَّدَنِي قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالتَّغَمُّدِ السَّتْرُ، وَمَا أَظُنُّهُ إِلَّا مَأْخُوذًا مِنْ غَمْدِ السَّيْفِ؛ لِأَنَّكَ إِذَا أَغْمَدْتَ السَّيْفَ فَقَدْ أَلْبَسْتَهُ الْغِمْدَ وَسَتَرْتَهُ بِهِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى عَمَلِهِ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ وَنَيْلِ الدَّرَجَاتِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا عَمِلَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْمَعْصِيَةَ بِعِصْمَةِ اللَّهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ.
قَوْلُهُ: (سَدِّدُوا) فِي رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَكِنْ سَدِّدُوا، وَمَعْنَاهُ اقْصِدُوا السَّدَادَ؛ أَيِ الصَّوَابَ، وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِدْرَاكِ أَنَّهُ قَدْ يُفْهَمُ مِنَ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ نَفْيُ فَائِدَةِ الْعَمَلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ لَهُ فَائِدَةٌ وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَامَةٌ عَلَى وُجُودِ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُدْخِلُ الْعَامِلَ الْجَنَّةَ، فَاعْمَلُوا وَاقْصِدُوا بِعَمَلِكُمُ الصَّوَابَ؛ أَيِ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَغَيْرِهِ لِيَقْبَلَ عَمَلَكُمْ فَيُنْزِلَ عَلَيْكُمُ الرَّحْمَةَ.
قَوْلُهُ: (وَقَارِبُوا)؛ أَيْ لَا تُفْرِطُوا فَتُجْهِدُوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْعِبَادَةِ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ بِكُمْ ذَلِكَ إِلَى الْمَلَالِ فَتَتْرُكُوا الْعَمَلَ فَتُفَرِّطُوا، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ وَلَكِنْ صَوَّبَ إِرْسَالَهُ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الزُّهْدِ لِابْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفٌ: إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبْغِضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى، وَالْمُنْبَتُّ بِنُونٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ ثَقِيلَةٍ؛ أَيِ الَّذِي عَطِبَ مَرْكُوبُهُ مِنْ شِدَّةِ السَّيْرِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَتِّ وَهُوَ الْقَطْعُ؛ أَيْ صَارَ مُنْقَطِعًا لَمْ يَصِلْ إِلَى مَقْصُودِهِ وَفَقَدَ مَرْكُوبَهُ الَّذِي كَانَ يُوَصِّلُهُ لَوْ رَفَقَ بِهِ. وَقَوْلُهُ أَوْغِلُوا بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْوُغُولِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ.
قَوْلُهُ: (وَاغْدُوا وَرُوحُوا وَشَيْئًا مِنَ الدُّلْجَةِ) فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَخَطًّا مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْغُدُوِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute