للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فَأَمَّا الْعِنْدِيَّةُ فَإِشَارَةٌ إِلَى الشَّرَفِ، وَأَمَّا الْكَمَالُ فَإِشَارَةٌ إِلَى رَفْعِ تَوَهُّمِ نَقْصِهَا لِكَوْنِهَا نَشَأَتْ عَنِ الْهَمِّ الْمُجَرَّدِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: بَلْ هِيَ كَامِلَةٌ لَا نَقْصَ فِيهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: أَشَارَ بِقَوْلِهِ: عِنْدَهُ إِلَى مَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَبِقَوْلِهِ كَامِلَةً إِلَى تَعْظِيمِ الْحَسَنَةِ وَتَأْكِيدِ أَمْرِهَا، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي السَّيِّئَةِ فَلَمْ يَصِفْهَا بِكَامِلَةٍ بَلْ أَكَّدَهَا بِقَوْلِهِ: وَاحِدَةً إِشَارَةً إِلَى تَخْفِيفِهَا مُبَالَغَةً فِي الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ كَتَبَهَا اللَّهُ أَمَرَ الْحَفَظَةَ بِكِتَابَتِهَا بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْآتِي فِي التَّوْحِيدِ بِلَفْظِ: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فَلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَلْبِ الْآدَمِيِّ إِمَّا بِإِطْلَاعِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ لَهُ عِلْمًا يُدْرِكُ بِهِ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: يُنَادَى الْمَلَكُ اكْتُبْ لِفُلَانٍ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهُ، فَيَقُولُ: إِنَّهُ نَوَاهُ. وَقِيلَ بَلْ يَجِدُ الْمَلَكُ لِلْهَمِّ بِالسَّيِّئَةِ رَائِحَةً خَبِيثَةً وَبِالْحَسَنَةِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.

وَأَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَرَأَيْتُ فِي شَرْحِ مُغْلَطَايْ أَنَّهُ وَرَدَ مَرْفُوعًا قَالَ الطُّوفِيُّ إِنَّمَا كُتِبَتِ الْحَسَنَةُ بِمُجَرَّدِ الْإِرَادَةِ لِأَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ سَبَبٌ إِلَى الْعَمَلِ، وَإِرَادَةَ الْخَيْرِ خَيْرٌ، لِأَنَّ إِرَادَةَ الْخَيْرِ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ.

وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ لَا تُضَاعَفُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ وَأُجِيبَ بِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ وَالْحَدِيثِ عَلَى الْهَمِّ الْمُجَرَّدِ، وَاسْتَشْكَلَ أَيْضًا بِأَنَّ عَمَلَ الْقَلْبِ إِذَا اعْتُبِرَ فِي حُصُولِ الْحَسَنَةِ فَكَيْفَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حُصُولِ السَّيِّئَةِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَرْكَ عَمَلِ السَّيِّئَةِ الَّتِي وَقَعَ الْهَمُّ بِهَا يُكَفِّرُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ نَسَخَ قَصْدَهُ السَّيِّئَةَ، وَخَالَفَ هَوَاهُ، ثُمَّ إِنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ حُصُولُ الْحَسَنَةِ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ أَمْ لَا، وَيَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ: يَتَفَاوَتُ عِظَمُ الْحَسَنَةِ بِحَسَبِ الْمَانِعِ فَإِنْ كَانَ خَارِجِيًّا مَعَ بَقَاءِ قَصْدِ الَّذِي هَمَّ بِفِعْلِ الْحَسَنَةِ فَهِيَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ قَارَنَهَا نَدَمٌ عَلَى تَفْوِيتِهَا وَاسْتَمَرَّتِ النِّيَّةُ عَلَى فِعْلِهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ مِنَ الَّذِي هَمَّ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَهِيَ دُونَ ذَلِكَ إِلَّا إِنْ قَارَنَهَا قَصْدُ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا جُمْلَةً وَالرَّغْبَةُ عَنْ فِعْلِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ وَقَعَ الْعَمَلُ فِي عَكْسِهَا كَأَنْ يُرِيدَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مَثَلًا فَصَرَفَهُ بِعَيْنِهِ فِي مَعْصِيَةٍ، فَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْأَخِيرِ أَنْ لَا تُكْتَبَ لَهُ حَسَنَةً أَصْلًا، وَأَمَّا مَا قَبْلَهُ فَعَلَى الِاحْتِمَالِ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: حَسَنَةً كَامِلَةً عَلَى أَنَّهَا تُكْتَبُ حَسَنَةً مُضَاعَفَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكَمَالُ، لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ يَلْزَمُ مِنْهُ مُسَاوَاةُ مَنْ نَوَى الْخَيْرَ بِمَنْ فَعَلَهُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكْتُبُ لَهُ حَسَنَةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّضْعِيفَ فِي الْآيَةِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْعَامِلِ لِقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ وَالْمَجِيءُ بِهَا هُوَ

الْعَمَلُ، وَأَمَّا النَّاوِي فَإِنَّمَا وَرَدَ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَعْنَاهُ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ، وَالتَّضْعِيفُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الْحَسَنَةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى.

قَوْلُهُ: فَإِنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ) يُؤْخَذُ مِنْهُ رَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ حَسَنَةَ الْإِرَادَةِ تُضَافُ إِلَى عَشْرَةِ التَّضْعِيفِ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ: فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ احْتِمَالٌ، وَرِوَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ فِي الْبَابِ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قُلْتُهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي أَمَالِيهِ: مَعْنَى الْحَدِيثِ إِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَإِنْ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ عَمِلَهَا كُمِّلَتْ لَهُ عَشَرَةً لِأَنَّا نَأْخُذُ بِقَيْدِ كَوْنِهَا قَدْ هَمَّ بِهَا، وَكَذَا السَّيِّئَةُ إِذَا عَمِلَهَا لَا تُكْتَبُ وَاحِدَةً لِلْهَمِّ وَأُخْرَى لِلْعَمَلِ بَلْ تُكْتَبُ وَاحِدَةً فَقَطْ.

قُلْتُ: الثَّانِي صَرِيحٌ فِي حَدِيثِ هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَوْنِهَا فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ لَا تُكْتَبُ بِمُجَرَّدِ الْهَمِّ، وَأَمَّا حَسَنَةُ الْهَمِّ بِالْحَسَنَةِ فَالِاحْتِمَالُ قَائِمٌ، وَقَوْلُهُ: بِقَيْدِ كَوْنِهَا قَدْ هَمَّ بِهَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ لَهُ أَنَّهُ هَمَّ بِهَا فَإِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِهِ أَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ تِسْعَةٌ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَنْ هَمَّ بِهَا وَمَنْ لَمْ يَهُمَّ،