أَطَاعَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ مَنْ حَضَرَ الْبَيْعَةَ وَمَنْ غَابَ عَنْهَا. وَفِي قَوْلِهِ: وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا إِيمَاءٌ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ حَيْثُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِّ وَالِاخْتِلَافِ.
قَوْلُهُ: (وَلَكِنَّ اللَّهَ وَقَى شَرَّهَا) أَيْ وَقَاهُمْ مَا فِي الْعَجَلَةِ غَالِبًا مِنَ الشَّرِّ؛ لِأَنَّ مِنَ الْعَادَةِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْحِكْمَةِ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يَفْعَلُ بَغْتَةً لَا يَرْضَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَ عُمَرُ سَبَبَ إِسْرَاعِهِمْ بِبَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ لِمَا خَشَوْا أَنْ يُبَايِعَ الْأَنْصَارُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: عَاجَلُوا بِبَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ خِيفَةَ انْتِشَارِ الْأَمْرِ وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَيَقَعَ الشَّرُّ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ: كَانَتْ فَلْتَةً أَنَّهَا وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مَعَ جَمِيعِ مَنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوَرَ.
وَأَنْكَرَ هَذِهِ الْكَرَابِيسِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ: بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَمَنْ مَعَهُ تَفَلَّتُوا فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى الْأَنْصَارِ فَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ بِحَضْرَتِهِمْ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْعَتِهِ، فَقَالَ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَالْمُرَادُ بِالْفَلْتَةِ مَا وَقَعَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَنْصَارِ وَمَا أَرَادُوهُ مِنْ مُبَايَعَةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: كَانَتْ فَلْتَةً أَنَّ ابْتِدَاءَهَا كَانَ عَنْ غَيْرِ مَلَأٍ كَثِيرٍ، وَالشَّيْءُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُقَالُ لَهُ الْفَلْتَةُ فَيُتَوَقَّعُ فِيهِ مَا لَعَلَّهُ يَحْدُثُ مِنَ الشَّرِّ بِمُخَالَفَةِ مَنْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ عَادَةً، فَكَفَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ الشَّرَّ الْمُتَوَقَّعَ فِي ذَلِكَ عَادَةً، لَا أَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِيهَا شَرٌّ.
قَوْلُهُ: (وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ السَّابِقَ مِنْكُمُ الَّذِي لَا يُلْحَقُ فِي الْفَضْلِ لَا يَصِلُ إِلَى مَنْزِلَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَلَا يَطْمَعُ أَحَدٌ أَنْ يَقَعَ لَهُ مِثْلُ مَا وَقَعَ لِأَبِي بَكْرٍ مِنَ الْمُبَايَعَةِ لَهُ أَوَّلًا فِي الْمَلَأِ الْيَسِيرِ، ثُمَّ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ اخْتِلَافِهِمْ عَلَيْهِ لِمَا تَحَقَّقُوا مِنِ اسْتِحْقَاقِهِ فَلَمْ يَحْتَاجُوا فِي أَمْرِهِ إِلَى نَظَرٍ وَلَا إِلَى مُشَاوَرَةٍ أُخْرَى، وَلَيْسَ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ مِثْلَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْمُسَارَعَةِ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ لِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ مِنْ قِيَامِهِ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَلِينِ جَانِبِهِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَحُسْنِ خُلُقِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالسِّيَاسَةِ وَوَرَعِهِ التَّامِّ مِمَّنْ لَا يُوجَدُ فِيهِ مِثْلُ صِفَاتِهِ لَا يُؤْمَنُ مِنْ مُبَايَعَتِهِ عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ - الِاخْتِلَافُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ الشَّرُّ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: تُقْطَعُ الْأَعْنَاقُ لِكَوْنِ النَّاظِرِ إِلَى السَّابِقِ تَمْتَدُّ عُنُقُهُ لِيَنْظُرَ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْ سَبْقِ مَنْ يُرِيدُ سَبْقَهُ قِيلَ انْقَطَعَتْ عُنُقُهُ، أَوْ لِأَنَّ الْمُتَسَابِقَيْنِ تَمْتَدُّ إِلَى رُؤْيَتِهِمَا الْأَعْنَاقُ حَتَّى يَغِيبَ السَّابِقُ عَنِ النَّظَرِ، فَعَبَّرَ عَنِ امْتِنَاعِ نَظَرِهِ بِانْقِطَاعِ عُنُقِهِ. وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: هُوَ مَثَلٌ، يُقَالُ لِلْفَرَسِ الْجَوَادِ: تَقَطَّعَتْ أَعْنَاقُ الْخَيْلِ دُونَ لَحَاقِهِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَذْكُورَةِ: وَمِنْ أَيْنَ لَنَا مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ تُمَدُّ أَعْنَاقُنَا إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ غَيْرِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَبِسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ فَلَا يُبَايَعُ بِالْمُوَحَّدَةِ، وَجَاءَ بِالْمُثَنَّاةِ وَهُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ هُوَ وَالَّذِي تَابَعَهُ.
قَوْلُهُ: (تَغِرَّةَ أَنْ يُقْتَلَا) بِمُثَنَّاةٍ مَفْتُوحَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ وَرَاءٍ ثَقِيلَةٍ بَعْدَهَا هَاءُ تَأْنِيثٍ أَيْ حَذَرًا مِنَ الْقَتْلِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ أَغَرَرْتُهُ تَغْرِيرًا أَوْ تَغِرَّةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ غَرَّرَ بِنَفْسِهِ وَبِصَاحِبِهِ وَعَرَّضَهُمَا لِلْقَتْلِ.
قَوْلُهُ: (وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا) كَذَا لِلْأَكْثَرِ مِنَ الْخَبَرِ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَوَقَعَ لِلْمُسْتَمْلِي بِسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالضَّمِيرُ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعَلَى هَذَا فَيُقْرَأُ: إِنَّ الْأَنْصَارَ بِالْكَسْرِ عَلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ آخَرَ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ.
قَوْلُهُ: (خَالَفُونَا) أَيْ لَمْ يَجْتَمِعُوا مَعَنَا فِي مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
قَوْلُهُ: (وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا) فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ، وَمَعْمَرٍ: وَأَنَّ عَلِيًّا، وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا تَخَلَّفُوا فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ لَكِنْ قَالَ الْعَبَّاسَ بَدَلَ الزُّبَيْرِ.
قَوْلُهُ: (يَا أَبَا بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا) زَادَ فِي رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ مَالِكٍ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا بِرَجُلٍ يُنَادِي مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ: اخْرُجْ إِلَيَّ يَا ابْنَ