تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُ بَلْ قِيلَ إِنَّهُ تَحْرِيفٌ مِنْ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَحَكَى عَنْ مَالِكٍ إِنْ جَاءَ تَائِبًا يُقْبَلُ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذَانِ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ.
وَعَنْ بَقِيَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ كَالْمَذَاهِبِ الْمَذْكُورَةِ، وَخَامِسٌ يُفْصَلُ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَتُقْبَلُ تَوْبَةُ غَيْرِ الدَّاعِيَةِ، وَأَفْتَى ابْنُ الصَّلَاحِ بِأَنَّ الزِّنْدِيقَ إِذَا تَابَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَيُعَزَّرُ، فَإِنْ عَادَ بَادَرْنَاهُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَلَمْ يُمْهَلْ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا﴾ فَقَالَ: الزِّنْدِيقُ لَا يُطَّلَعُ عَلَى صَلَاحِهِ لِأَنَّ الْفَسَادَ إِنَّمَا أَتَى مِمَّا أَسَرَّهُ فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَ الْإِقْلَاعَ عَنْهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ الْآيَةَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ لِمَالِكٍ بِأَنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ لَا تُعْرَفُ، قَالَ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ ﷺ الْمُنَافِقِينَ لِلتَّأَلُّفِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُمْ لَقَتَلَهُمْ بِعِلْمِهِ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ إِنَّمَا قَتَلَهُمْ لِمَعْنًى آخَرَ، وَمِنْ حُجَّةِ مَنِ اسْتَتَابَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِظْهَارَ الْإِيمَانِ يُحْصِنُ مِنَ الْقَتْلِ، وَكُلُّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا عَلَى الظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، وَقَدْ قَالَ ﷺ لِأُسَامَةَ: هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ، وَقَالَ لِلَّذِي سَارَّهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ: أَلَيْسَ يُصَلِّي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِهِمْ.
وَسَيَأْتِي قَرِيبًا أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لَمَّا اسْتَأْذَنَ فِي قَتْلِ الَّذِي أَنْكَرَ الْقِسْمَةَ وَقَالَ: كَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ ﷺ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
مَا أَطْلَعَانِي عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتَ شَفَتِهِ قَلَصَتْ، فَقَالَ: لَنْ - أَوْ لَا - نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى - أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ - إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً قَالَ: انْزِلْ، فإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ: اجْلِسْ. قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، ثُمَّ تَذَاكَرَا قِيَامَ اللَّيْلِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الليل، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَرْجُو فِي نَوْمَتِي مَا أَرْجُو فِي قَوْمَتِي.
الْحَدِيثُ الثَّاني: حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ؛ الْأَوَّلُ: السِّوَاكُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ أَتَمَّ مِمَّا هُنَا، الثَّانِي: ذَمُّ طَلَبِ الْإِمَارَةِ وَمَنْعُ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهَا، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، الثَّالِثُ: بَعْثُ أَبِي مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ وَإِرْسَالُ مُعَاذٍ أَيْضًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ بِثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ، الرَّابِعُ: قِصَّةُ الْيَهُودِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا.
قَوْلُهُ: (يَحْيَى) هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَالسَّنَدُ كُلُّهُ بَصْرِيُّونَ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي مُوسَى) فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِهَذَا السَّنَدِ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ) هُمَا مِنْ قَوْمِهِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِمَا، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُ عَمِّ أَبِي مُوسَى، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَمِّي.
قَوْلُهُ: (فَكِلَاهُمَا سَأَلَ) كَذَا فِيهِ بِحَذْفِ الْمَسْئُولِ، وَبَيَّنَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ الْمَذْكُورَةِ فَقَالَ فِيهَا: سَأَلَ الْعَمَلَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَلَفْظُهُ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَهُ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلَّاكَ اللَّهُ.
وَلِأَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ: فَتَشَهَّدَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ: جِئْنَاكَ لِتَسْتَعِينَ بِنَا عَلَى عَمَلِكَ فَقَالَ الْآخَرُ مِثْلَهُ. وَعِنْدَهُمَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَتَانِي نَاسٌ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ فَقَالُوا انْطَلِقْ مَعَنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإِنَّ لَنَا حَاجَةً، فَقُمْتُ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: أَتَسْتَعِينُ بِنَا فِي عَمَلِكَ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمَا مَنْ يَتْبَعُهُمَا، وَأَطْلَقَ صِيغَةَ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي بِأَيِّهِمَا خَاطَبَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمُسَدَّدٍ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ بِسَنَدِهِ فِيهِ فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا مُوسَى، وَمِثْلُهُ لِمُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ يَحْيَى.
قَوْلُهُ: (قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ