الثَّلَاثَةِ، وَهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ بِشَهَادَةِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، وَقَسَّمَ بَعْضُهُمْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ إِلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ: قَوْلَانِ لِمَنْ يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ أَحَدُهُمَا: مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَهُمُ الْمُشَبِّهَةُ، وَيَتَفَرَّعُ مِنْ قَوْلِهِمْ عِدَّةُ آرَاءٍ، وَالثَّانِي: مَنْ يَنْفِي عَنْهَا شَبَهَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ؛ لِأَنَّ ذَاتَ اللَّه لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتَ، فَصِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ فَإِنَّ صِفَاتِ كُلِّ مَوْصُوفٍ تُنَاسِبُ ذَاتَهُ وَتُلَائِمُ حَقِيقَتَهُ، وَقَوْلَانِ لِمَنْ يُثْبِتُ كَوْنَهَا صِفَةً، وَلَكِنْ لَا يُجْرِيهَا عَلَى ظَاهِرِهَا؛ أَحَدُهُمَا يَقُولُ: لَا نُؤَوِّلُ شَيْئًا مِنْهَا بَلْ نَقُولُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، وَالْآخَرُ يُؤَوِّلُ، فَيَقُولُ مَثَلًا مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ: الِاسْتِيلَاءُ، وَالْيَدُ الْقُدْرَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَقَوْلَانِ لِمَنْ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهَا صِفَةٌ أَحَدُهُمَا يَقُولُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً وَظَاهِرُهَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَكُونَ صِفَةً، وَالْآخَرُ يَقُولُ: لَا يُخَاضُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ مَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَجِيدُ الْكَرِيمُ، وَالْوَدُودُ الْحَبِيبُ) وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ قَالَ: الْمَجِيدُ الْكَرِيمُ، وَبِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ قَالَ: الْوَدُودُ الْحَبِيبُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ تَقْدِيمُ الْمَجِيدِ قَبْلَ الْوَدُودِ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ تَفْسِيرُ لَفْظِ الْمَجِيدِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ فَلَمَّا فَسَّرَهُ اسْتَطْرَدَ لِتَفْسِيرِ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ قُرِئَ مَرْفُوعًا بِالِاتِّفَاقِ، وَذُو الْعَرْشِ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لَهُ، وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي الْمَجِيدُ بِالرَّفْعِ، فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَبِالْكَسْرِ فَيَكُونُ صِفَةَ الْعَرْشِ، قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ الْعَرْشِ إِلَّا أَثَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لَكِنَّهُ نَبَّهَ بِهِ عَلَى لَطِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْمَجِيدَ فِي الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ لَيْسَ صِفَةً لِلْعَرْشِ، حَتَّى لَا يُتَخَيَّلَ أَنَّهُ قَدِيمٌ بَلْ هِيَ صِفَةُ اللَّهِ، بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَبِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِالْوَدُودِ فَيَكُونُ الْكَسْرُ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ لِتَجْتَمِعَ الْقِرَاءَتَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ أَنَّهَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَرْدَفَهُ بِهِ، وَهُوَ يُقَالُ: حَمِيدٌ مَجِيدٌ إِلَخْ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ: إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَجَّدَنِي عَبْدِي، ذَكَرَهُ ابْنُ التِّينِ قَالَ: وَيُقَالُ: الْمَجْدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الشَّرَفُ الْوَاسِعُ، فَالْمَاجِدُ مَنْ لَهُ آبَاءٌ مُتَقَدِّمُونَ فِي الشَّرَفِ، وَأَمَّا الْحَسَبُ وَالْكَرَمُ فَيَكُونَانِ فِي الرَّجُلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آبَاءٌ شُرَفَاءُ، فَالْمَجِيدُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْمَجْدِ، وَهُوَ الشَّرَفُ الْقَدِيمُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْمَجْدُ السَّعَةُ فِي الْكَرَمِ وَالْجَلَالَةِ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: مَجَدَتِ الْإِبِلُ، أَيْ: وَقَعَتْ فِي مَرْعًى كَثِيرٍ وَاسِعٍ، وَأَمْجَدَهَا الرَّاعِي، وَوُصِفَ الْقُرْآنُ بِالْمَجِيدِ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْمَكَارِمِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، انْتَهَى. وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَمْتَنِعُ وَصْفُ الْعَرْشِ بِذَلِكَ لِجَلَالَتِهِ وَعَظِيمِ قَدْرِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّاغِبُ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِالْكَرِيمِ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْوَدُودِ بِالْحَبِيبِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْمُحِبِّ وَالْمَحْبُوبِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوُدِّ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْوَدُودُ يَتَضَمَّنُ مَا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ.
قَوْلُهُ: (يُقَالُ: حَمِيدٌ مَجِيدٌ كَأَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ مَاجِدٍ مَحْمُودٍ مِنْ حَمِدَ) كَذَا لَهُمْ بِغَيْرِ يَاءٍ فِعْلًا مَاضِيًا وَلِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ مَحْمُودٌ مِنْ حَمِيدٍ، وَأَصْلُ هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ: ﴿عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ أَيْ: مَحْمُودٌ مَاجِدٌ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: غَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّ مَجِيدًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَقَدِيرٍ بِمَعْنَى قَادِرٍ، وَحَمِيدًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ: مَجِيدٌ مِنْ مَاجِدٍ وَحَمِيدٌ مِنْ مَحْمُودٍ، قَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: مَحْمُودٌ مِنْ حَمِيدٍ، وَفِي أُخْرَى مِنْ حَمِدَ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ حَمِيدٌ بِمَعْنَى حَامِدٍ وَمَجِيدٌ بِمَعْنَى مُمَجَّدٍ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي عِبَارَةِ الْبُخَارِيِّ تَعْقِيدٌ. قُلْتُ: وَهُوَ فِي قَوْلِهِ: مَحْمُودٌ مِنْ حَمِدَ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِيهِ وَالْأَوْلَى فِيهِ مَا وُجِدَ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ كَلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْبَابِ تِسْعَةَ أَحَادِيثَ لِبَعْضِهَا طَرِيقٍ أُخْرَى.
الأول حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَقَوْلُهُ فِي السَّنَدِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute