عَنْ جَامِعٍ.
قَوْلُهُ: (جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ) هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَتَمُّ الرِّوَايَاتِ الْوَاقِعَةُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَحَذَفَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي بَعْضِهَا أَوْ بَعْضَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَخْبِرْنَا عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ كَيْفَ كَانَ، وَلَمْ أَعْرِفِ اسْمَ قَائِلِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا الْأَمْرُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ.
قَوْلُهُ: (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ بِلَفْظِ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: كَانَ اللَّهُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى: كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، وَهِيَ أَصَرْحُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مِنْ رِوَايَةِ الْبَابِ، وَهِيَ مِنْ مُسْتَشْنَعِ الْمَسَائِلِ الْمَنْسُوبَةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَوَقَفْتُ فِي كَلَامٍ لَهُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، يُرَجِّحُ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى غَيْرِهَا، مَعَ أَنَّ قَضِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ تَقْتَضِي حَمْلَ هَذِهِ عَلَى الَّتِي فِي بَدْءِ الْخَلْقِ لَا الْعَكْسَ، وَالْجَمْعُ يُقَدَّمُ عَلَى التَّرْجِيحِ بِالِاتِّفَاقِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ حَالٌ، وَفِي الْمَذْهَبِ الْكُوفِيِّ خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى يُسَاعِدُهُ إِذِ التَّقْدِيرُ كَانَ اللَّهُ مُنْفَرِدًا، وَقَدْ جَوَّزَ الْأَخْفَشُ دُخُولَ الْوَاوِ فِي خَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا نَحْوَ: كَانَ زَيْدٌ وَأَبُوهُ قَائِمٌ، عَلَى جَعْلِ الْجُمْلَةِ خَبَرًا مَعَ الْوَاوِ تَشْبِيهًا لِلْخَبَرِ بِالْحَالِ، وَمَالَ التُّورْبَشْتِيُّ إِلَى أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ لَفْظَةُ: كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِحَسَبِ حَالِ مَدْخُولِهَا، فَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ الْأَزَلِيَّةُ وَالْقِدَمُ، وَبِالثَّانِي الْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ، ثُمَّ قَالَ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ عَطْفَ قَوْلِهِ: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ عَلَى قَوْلِهِ: كَانَ اللَّهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ عَنْ حُصُولِ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْوُجُودِ وَتَفْوِيضِ التَّرْتِيبِ إِلَى الذِّهْنِ، قَالُوا: وَفِيهِ بِمَنْزِلَةِ ثُمَّ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا يَلْزَمُ
مِنْهُ الْمَعِيَّةُ إِذِ اللَّازِمُ مِنَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ الِاجْتِمَاعُ فِي أَصْلِ الثُّبُوتِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، قَالَ غَيْرُهُ: وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ لِنَفْيِ تَوَهُّمِ الْمَعِيَّةِ، قَالَ الرَّاغِبُ: كَانَ عِبَارَةٌ عَمَّا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ؛ لَكِنَّهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الْأَزَلِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ قَالَ: وَمَا اسْتُعْمِلَ مِنْهُ فِي وَصْفِ شَيْءٍ مُتَعَلِّقًا بِوَصْفٍ لَهُ هُوَ مَوْجُودٌ فِيهِ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَازِمٌ لَهُ أَوْ قَلِيلُ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ وَإِذَا اسْتُعْمِلَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى حَالِهِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ، نَحْوَ: كَانَ فُلَانٌ كَذَا ثُمَّ صَارَ كَذَا، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا.
قَوْلُهُ: (أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ) فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: انْحَلَّتْ نَاقَتُكَ مِنْ عِقَالِهَا. وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: فَلَا أَدْرِي مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، أَيْ: مِمَّا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَكْمِلَةً لِذَلِكَ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَسَانِيدِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عِمْرَانُ، وَلَوْ وُجِدَ ذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ عِمْرَانُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اتُّفِقَ أَنَّ الْحَدِيثَ انْتَهَى عِنْدَ قِيَامِهِ.
قَوْلُهُ: (وَأَيْمُ اللَّهِ) تَقَدَّمَ شَرْحُهَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ.
قَوْلُهُ: (لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ) الْوُدُّ الْمَذْكُورُ تَسَلَّطَ عَلَى مَجْمُوعِ ذَهَابِهَا وَعَدَمِ قِيَامِهِ لَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَقَطْ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهَا كَانَ قَدْ تَحَقَّقَ بِانْفِلَاتِهَا، وَالْمُرَادُ بِالذَّهَابِ الْفَقْدُ الْكُلِّيُّ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَبْلَ بَابَيْنِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَقَعَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ: وَالْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَذَلِكَ حِينَ التَّحْدِيثِ بِذَلِكَ؛ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الْعَرْشَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَيُجْمَعُ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَلَى الْمَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَاءَ الْبَحْرِ، بَلْ هُوَ مَاءٌ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا شَاءَ اللَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute