للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صنعتُ لكم طعامًا يا معشر قريش، فأنا أحبُّ أنْ تحضُروا كلُّكم، صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحُرّكم. فقال له رجل منهم: والله يا بَحِيرى إنَّ لك لشأنًا اليوم، ما كنتَ تصِنعُ هذا بنا وقد كُنَّا نمرُّ بك كثيرًا، فما شأنُكَ اليوم؟ قال له بَحِيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنَّكم ضيْف، وقد أحببتُ أنْ أُكرمكم وأصنَعَ لكم طعامًا فتأكلوا منه كلُّكم. فاجتمعوا إليه وتخلَّف رسولُ الله من بينِ القوم لحداثةِ سِنِّه في رِحالِ القوم تحت الشجرة، فلما رآهم بَحِيري لم يرَ الصفةَ التي يعرفُ ويجدُ (١) عنده، فقال: يا معشر قريش، لا يتخلَّفَنَّ أحدٌ منكم عن طعامي. قالوا له: يا بحيرى، ما تخلَّفَ عنك أحدٌ ينبغي له أنْ يأتيكَ إلا غلامٌ وهو أحدَثُنا سِنًّا، فتخلَّف في رحالنا. قال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضُرْ هذا الطعامَ معكم. قال: فقال رجلٌ من قريش مع القوم: واللاتِ والعُزَّى، إنْ كان للؤْمًا بنا أن يتخلَّف محمدُ بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعامٍ من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه [، ثم أقبلَ به] وأجلسه مع القوم، فلما رآه (٢) بَحِيرى جعل يلحظُه لحظًا شديدًا، وينظرُ إلى أشياء من جسده، قد كان يجدُها عندَهُ من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا، قام إليه بحيرى وقال له: يا غلام، أسألك بحقِّ اللات والعُزَّى إلا أخبرتني عمَّا أسالُكَ عنه. وإنما قال له بَحِيرى ذلك، لأنه سمع قومَهُ يحلِفُون بهما، فزعموا أنَّ رسولَ الله قال له: "لا تسألني باللاتِ والعُزَّى شيئًا، فواللهِ ما أبغضتُ شيئًا قطُّ بُغْضَهما". فقال له بَحِيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألُك عنه؟ فقال له: "سلْني عمَّا بدا لك". فجعل يسألُه عن أشياءَ من حاله من نومِهِ وهَيْئَتهِ وأُموره. فجعل رسولُ الله يُخْبِرُه، فوافق (٣) ذلك ما عند بَحِيرى من صفته. ثم نظر إلى ظهرهِ فرأى خاتم النبوة بين كتفيه [على] موضعه من صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمِّهِ أبي طالب فقال: ما هذا الغلامُ منك؟ قال: ابني، قال بَحِيرى: ما هو بابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكونَ أبوه حيًّا؟ قال: فإنَّهُ ابنُ أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمُّه حُبْلَى به. قال: صدقت، ارجِعْ بابن أخيك إلى بلَدِه، واحْذَرْ عليه يهود. فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت لَيَبْغُنَّه (٤) شرًّا، فإنَّهُ كائنٌ لابنِ أخيك هذا شأنٌ عظيم، فأسرعْ به إلى بلاده. فخرج به عمُّه أبو طالب سريعًا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.

قال ابن إسحاق (٥): فزعموا فيما روى الناس أنَّ زُرَيْرًا، وثمامًا (٦)، ودَريسًا -وهم نفرٌ من أهْلِ الكتاب- قد كانوا رأَوا رسولَ الله مثلما رأى بَحِيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب، فأرادوهُ فردَّهم عنه بَحيرى، فذكَّرَهُم اللهَ وما يجدون في الكتابِ من ذِكره وصفته، وأنهم إنْ أجمعوا لما


(١) في ح: يعرفه بها، وفي ط: ويجده، والمثبت من مصادر التخريج.
(٢) في ح: رأى. والمثبت من ط ومصادر التخريج.
(٣) في سائر المصادر فيوافق. وهو أشبه بالصواب.
(٤) في ح: إنْ .. ليتبعنه، وفي سيرة ابن إسحاق: ليبغينه. والمثبت من ط وباقي المصادر.
(٥) سيرة ابن إسحاق (ص ٥٥) وسيرة ابن هشام (١/ ١٨٣) والروض الأنف (١/ ٢٠٧) ومختصر ابن منظور (٢/ ٩).
(٦) كذا في ح، ط وفي سيرة ابن إسحاق وسائر مصادر تخريجه تمامًا بالتاء المثناة من فوق.