للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فصل]

ولما ارتحل من قُباء وهو راكبٌ ناقته القَصْواء، وذلك يوم الجمعة أدركه وقت الزوال وهو في دار بني سالم بن عوف، فصلَّى بالمسلمين الجُمعةَ هنالك، في وادٍ يقالُ له وادي رانُوناء (١)، فكانت أولَ جمعةٍ صلاها رسولُ اللَّه بالمسلمين بالمدينة، أو مطلقًا لأنه واللَّه أعلم لم يكن يتمكَّن هو وأصحابه بمكَّة من الاجتماع حتى يُقيموا بها جمعةً ذات خطبةٍ وإعلان بموعظة، وما ذاك إلا لشدَّة مخالفةِ المشركين له، وأذيَّتهم إياه.

ذكر خطبة رسول اللَّه يومئذ

قال ابن جرير (٢): حدَّثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابنُ وهب، حدثنا (٣) سعيدُ بن عبد الرحمن الجُمَحي أنه بلغه عن خطبة النبيِّ في أولِ جمعةٍ صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف : "الحمد للَّه أحمده وأستعينُه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفُره، وأعادي مَنْ يكفره، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله بالهدى ودينِ الحقِّ والنورِ والموعظة على فترةٍ من الرُّسل، وقلَّةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاعٍ من الزمان، ودنوٍّ من الساعة، وقُرْبٍ من الأجل؛ مَنْ يطعِ اللَّهَ ورسولَه فقد رَشَد؛ ومن يعصِهما فقد غَوَى وفرَّط، وضلَّ ضلالًا بعيدًا، وأوصيكم بتقوى اللَّه، فإنه خيرُ ما أوصى به المسلمُ المسلمَ أن يحُضَّه على الآخرة. وأن يأمرَهُ بتقوى اللَّه. فاحذروا ما حذَّركم اللَّهُ من نفسِه. ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرى. وإنه تقوى لمن عَمِل به على وَجَلٍ ومَخَافة، وعون صدق على ما تَبْغُونَ من أمرِ الآخرة، ومَنْ يُصلح الذي بينَهُ وبين اللَّه من أمر السرِّ والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وَجْهَ اللَّه يكن له ذِكرًا في عاجلِ أمره وذُخْرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرءُ إلى ما قدَّم، وما كان من سوى ذلك يودُّ لو أنَّ بينه وبينه أمدًا بعيدًا، ويحذِّركُم اللَّه نفسَه واللَّه رؤوفٌ بالعباد. والذي صدَّق قوله، وأنجز (٤) وعده، لا خُلْفَ لذلك، فإنَّهُ يقولُ تعالى: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: ٢٩] واتقوا اللَّه في عاجل أمرِكم وآجلِه، في السِّرِّ والعلانية، فإنَّه ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ [الطلاق: ٥]، ومن يتَّقِ اللَّهَ فقد فازَ فَوْزًا عَظيمًا؛ وإنَّ تقوى اللَّه تُوَقِّي مَقْتَه، وتوقِّي عُقوبتَه، وتوقِّي سُخْطَه؛ وإنَّ تقوى اللَّه تُبَيِّضُ الوجه (٥)، وتُرْضي الربّ، وترفع


(١) في ط: رانواناء. تصحيف، والمثبت من هامش ح ومعجم البلدان (٣/ ١٩) وقال فيه: بوزن عاشوراء وخابوراء.
(٢) في تاريخه (٢/ ٣٩٤).
(٣) في ط: عن وفي الطبري: حدثني.
(٤) في ح: ونجز، وكذا في بعض نسخ الطبري.
(٥) في الطبري: الوجوه.