للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ثم دخلت سنة سبع عشرة]

في المُحرم منها انتقل سعد بن أبي وقاص من المدائن إلى الكوفة، وذلك أنَّ الصحابةَ استوخموا (١) المدائن، وتَغيَّرتْ ألوانُهم، وضعفتْ أبدانُهم، لكثرةِ ذبابها وغبارها، فكتبَ سعد إلى عمر في ذلك، فكتب (عمر): إنَّ العربَ لا تصلحُ إلا حيثُ يوافق إبلَها. فبعث سعد حُذَيْفة وسلمان (بن زياد) يرتادان (٢) للمسلمين منزلًا مناسبًا يصلحُ لإقامتهم. فمرَّا على أرض الكوفة، وهي حصباء في رملة حمراء، فأعجبتهما ووجدا هنالك ديرات ثلاث (٣) دير حرقة بنت النعمان، ودير أم عمرو، ودير سلسلة، وبين ذلك خصاص (٤) خلال هذه الكوفة، فنزلا فصلَّيا هنالك، وقال كل واحد منهما: اللهم ربّ السماء وما أظَلَّتْ، وربّ الأرض وما أقلَّتْ، وربّ الريح وما ذَرَتْ، والنجوم وما هَوَتْ، والبحار وما جَرَتْ، والشياطين وما أضلَّتْ، والخصاص وما أجنَّتْ، باركْ لنا في هذه الكوفة واجعلها منزلَ ثباتٍ، ثم كتبا إلى سعد بالخبر.

فأمر سعد باختطاط الكوفة، وسار إليها في أول هذه السنة في محرمها، فكان أول بنا (٥) وضع فيها المسجد. وأمر سعد رجلًا راميًا شديد الرمي، فرمى من المسجد إلى الأربع جهات فحيثُ سقطَ سهمُه بنى الناسُ منازلهم، وعَمَّر قصرًا تلقاء (٦) محراب المسجد للإمارة وبيت المال، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت (٧) في أثناء السنة، فبنوها باللَّبِنِ عن أمر عمر، بشرط أن لا يسرفوا ولا يجاوزوا الحدَّ. وبعث سعد إلى الأمراء والقبائل فقدموا عليه، فأنزلهم الكوفةَ، وأمر سعد أبا هَيّاج (٨) الموكل بإنزال الناس فيها بأن يعمُروا ويدعوا للطريق المنهج وسع أربعين ذراعًا. ولما دون ذلك ثلاثين وعشرين ذراعًا، وللأزقَّة سبعة أذرع. وبُني لسعد قصر قريب من الشُوق، فكانت غوغاء الناس [تمنع] سعدًا من الحديث، فكان يغلق بابه ويقول: سكِّنِ الصويت، فلما بلغت هذه الكلمة عمر بن الخطاب بعث محمد بن مسلمة، فأمره إذا انتهى إلى الكوفة أن يقدح زناده ويجمع حطبًا ويحرق باب القصر ثم يرجع من فوره. فلما انتهى إلى الكوفة فعل ما أمره به عمر، وأمر سعدًا أن لا يغلق بابه عن الناس، ولا يجعل على


(١) بلدة وَخِمَة ووخيمة إذا لم يوافق سكنُها وقد استوخمتُها. اللسان (وخم).
(٢) في أ: يريدان؛ والمثبت هو الأشبه.
(٣) في أ: ثلاث ديرات حربة ابن النعمان. وما هنا موافق للسان (دير).
(٤) الخصاص: جمع خص وهو البيت من الشجر أو القصب. اللسان (خصص).
(٥) في أ: أول ما وضع.
(٦) في أ: قصرًا أبلقًا.
(٧) في أ: فاحترق.
(٨) في تاريخ الطبري (٤/ ٤٤): أبو الهيّاج بن مالك.