للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم دخلت سنة ثمان (١) عشرة ومئتين

في أول يوم من جمادى الأولى منها وجَّه المأمونُ ابنَه العبَّاسَ إلى بلاد الروم لبناء الطُّوانة، وتجديد عمارتها. وبعث إلى سائر الأقاليم والآفاق في تجهيز الفَعَلَةِ (٢) من كلّ بلدٍ إليها، من مصر والشام والعراق وغير ذلك، فاجتمع خلقٌ كثير لا يعلمهم إلا اللَّه ﷿. وأمره أن يجعلها ميلًا في ميلٍ، وأن يجعل سورَها ثلاثة فراسِخَ، وأن يجعل لها ثلاثة أبواب، عند كُلِّ بابٍ حِصْنٌ.

ذكر أوَّل المحنة (٣):

في هذه السنة كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدّثين بالقول بخلق القرآن، وأن يرسل إليه جماعة منهم إلى الرّقة. ونسخة كتاب المأمون إلى نائبه مطولة، قد سردها ابنُ جرير (٤)؛ ومضمونها الاحتجاجُ على أنَّ القرآن محدث وليس بقديم، وعنده أن كلَّ محدث فهو مخلوق، وهذا أمرٌ لا يوافقه عليه كثيرٌ من المتكلمين ولا المحدثين، فإنَّ القائلين بأنه تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية، لا يقولون بأنَّ فعله تعالى القائم بذاته المقدسه (٥) بعد أن لم يكن مخلوقًا (٦)، بل يقولون: هو محدَثٌ وليس بمخلوق، بل هو كلام اللَّه تعالى القائم بذاته المقدسة، وما كان قائمًا بالذات لا يكون مخلوقًا، وقد قال اللَّه تعالى: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾ [الأنبياء: ٢] (٧). وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [الأعراف: ١١]. فالأمر منه بالسجود صدرَ منه تعالى بعد خلقه آدم، فالكلام القائم بالذات ليس بمخلوق، وهذا له موضع آخر.

وقد صنف البخاريُّ كتابًا في هذا المعنى سمَّاه "خلق أفعال العباد".

والمقصود أن الكتاب (٨) لمَّا ورد بغداد قُرئ على الناس. وقد عيَّن المأمونُ جماعةً من المحدّثين


(١) في الأصول: ثماني عشرة بإثبات الياء، كالاسم المنقوص المضاف. وأثبت ما جاء في ط.
(٢) "الفَعَلَة": صفة غالبة على عَمَلةِ الطين والحفر ونحوهما؛ لأنَّهم يفعلون. اللسان: فعل.
(٣) في ط: ذكر أوَّل المحنة والفتنة.
(٤) تاريخ الطبري (٨/ ٦٣١).
(٥) في ط: المقدسة مخلوق، بل لم يكن مخلوقًا.
(٦) في ظا، ب: محدثًا.
(٧) وفي الأصول: من الرحمن محدث وهي الآية (٥) من سورة الشعراء. وقد أثبت ما جاء في ط.
(٨) في ط: أن كتاب المأمون.

<<  <  ج: ص:  >  >>