للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مجلسًا لعمرَ بن عبد العزيز، وعندَه جماعةٌ، فقال عمرُ: ما أحدٌ أكرمُ على اللَّه من كريم بني آدم، واستدلَّ بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: ٧] ووافقَه على ذلك أميَّةُ بن عمرو بن سعيد، فقال عِرَاكُ بن مالك: ما أحدٌ أكرمُ على اللَّه من ملائكته، هم خزنة داره، ورسلُه إلى أنبيائه. واستدلَّ بقوله تعالى: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: ٢٠] فقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القُرظي: ما تقولُ أنتَ يا أبا حمزة! فقال: قد أكرمَ اللَّه آدمَ، فخلقَه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجدَ له ملائكته، وجعلَ من ذريَّتِه الأنبياء والرسل، ومن يزورُه الملائكةُ (١). فوافقَ عمرَ بن عبد العزيز في الحكم، واستدلَّ بغير دليله. وأضعفُ دلالةٍ ما نزعَ به من الآية، وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البينة: ٧] بما مضمونُه أنَّها ليست بخاصَّة بالبشر، فإنَّ اللَّه قد وصفَ الملائكةَ بالإيمان في قوله: ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [غافر: ٧] وكذلك الجانّ ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ﴾ [الجن: ١٣] ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ﴾ [الجن: ١٤].

قلت: وأحسنُ ما يُستدلُّ به في هذه المسألة ما رواه عثمان بن سعيد الدَّارميّ: عن عبد اللَّه بن عمرو، مرفوعًا، وموقوفًا، وهو أصحُّ، قال: "لمَّا خلقَ اللَّه الجنَّة قالتِ الملائكةُ: يا ربَّنا اجعلْ لنا هذه نأكلُ منها ونشربُ، فإنَّك خلقتَ الدنيا لبني آدم، فقالَ اللَّه: لنْ أجعلَ صالحَ ذرِّيةِ منْ خلقتُ بيدي كمَنْ قلتُ له: كنْ فكان" (٢).

* * *

باب خلق الجان وقصّة الشيطان

قال اللَّه تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٤ - ١٦]. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: ٢٦ - ٢٧] وقال ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد والحسن وغير واحد ﴿مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [الرحمن: ١٥] قالوا: من طَرَفِ اللَّهَب، وفي رواية: من خالصِه وأحسنِه.

وقد ذكرنا آنفًا: من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه : "خُلِقَتِ الملائكةُ منْ نُورٍ، وخُلِقت الجَانُّ من مَارج من نار، وخُلِقَ آدمُ مما وُصفَ لكم" رواه مسلم (٣).


(١) في المصدر السابق "وجعل من ذريته من تزوره الملائكة".
(٢) عثمان بن سعيد الدارمي السجستاني، محدث، حافظ، له كتاب المسند الكبير، مخطوط، ولم أجد الحديث في المصادر الحديثية المطبوعة.
(٣) في صحيحه (٢٩٩٦) في الزهد، وتقدم (ص ٦٥).