ويُوصلانِهِ بعضَ البلاد، ولم أشعُرْ بأنَّ الجاريةَ قد أحاطَتْ علمًا بما جرَى، وأنَّها كالجاسوسِ عليّ فبَعَثَتْ بخادِمِها إلى المهديِّ فأعلَمتْهُ بما جَرَى، وتقول له: هذا الذي آثرته بي قد فعل كذا وكذا. فغَضِبَ المهديّ، فبعث إلى تلك الطريق، فردُّوا ذلك العلويّ، فحبَسَهُ عندَهُ في بيتٍ من دارِ الخِلافة، وأرسل إليَّ من اليوم الثاني، فذهبتُ إليه، ولم أشعُرْ منْ أمْرِ العلويِّ بشيء، فلمَّا دخلتُ عليه قال: ما فعلَ العلويّ؟ قلتُ: مات. قال: آللَّه؟ قلت: آللَّه. قال: فضَعْ يدَكَ على رأسي واحْلِفْ بحياتِه. ففعلتُ، فقال: يا غلام، أخرِجْ ما في هذا البيت. فخرَجَ العلويّ، فأُسقِطَ في يدي، فقال المهدي: دمُكَ حلال. ثم أمَرَ به فأُلقيَ في بئر في الْمُطْبِق. قال يعقوب: فكنتُ في مكانٍ لا أسمعُ فيه ولا أُبصِر، فذهب بصَرِي وطال شَعْري حتى صرتُ مثلَ البهائم، ثم مَضَتْ عليَّ مُددٌ متطاولة، فبينما أنا ذاتَ يوم إذْ دُعيت، فخرجتُ من البئر، فقيل لي: سلِّمْ على أميرِ المؤمنين، فسلَّمْتُ وأنا أظنُه المهدي، فلما ذكرتُ المهدي قال: رحم اللَّه المهدي. فقلت: الهادي؟ فقال: رحم اللَّه الهادي. فقلت: الرشيد؟ قال: نعم. فقلت: يا أميرَ المؤمنين، قد رأيتَ ما حَلَّ بي من الضَّعْف والعِلَّة، فإنْ رأيتَ أنْ تُطلِقَني. فقال: أين تُريد؟ قلت: مكة. فقال: اذهَبْ راشدًا. فسار إلى مكة، فما لَبِثَ بها إلَّا قليلًا حتى ماتَ رحمه اللَّه تعالى.
وقد كان يعقوبُ هذا يَعِظُ المهديَّ في تعاطيهِ شُربَ النَّبيذِ بين يديه، وكثرَةِ سماعِ الغِنَاء، فكان يَلومُهُ على ذلك ويقول: ما على هذا استوزَرْتَني، ولا على هذا صَحِبتُك، أبَعْدَ الصلواتِ الخمس في المسجدِ الحرام يُشربُ الخمر؟! ويُغَنَّى بين يديك؟! فيقول له المهدي: فقد سمع عبدُ اللَّه بن جعفر. فقال له يعقوب: إنَّ ذلك لم يكنْ من حَسَناتِه، ولو كان هذا قُرْبَةً لكان كلَّما داوم عليه العبدُ أفضل. وفي ذلك يقولُ بعضُ الشعراء حَثًا للمَهْديِّ على ذلك:
وفيها ذهب المهديُّ إلى قصرِه المسمَّى بقصر السلام بِعيساباذ (١) -بُني له بالآجُرِّ بعد القصرِ الأول الذي بناه بالقَبِن- فسكنَهُ، وضرَبَ هناك الدراهمَ والدنانير، وفيها أمرَ المهديُّ بإقامةِ البريد بين مكة والمدينة واليمن، ولم يفعل أحَدٌ هذا قبلَ هذه السنة. وفيها خرج موسى الهادي إلى جُرْجان. وفيها ولَّى القضاءَ أبا يوسُفَ صاحبَ أبي حَنيفَة. وفيها حجَّ بالناس إبراهيمُ بن يحيى بن محمد، عاملُ المدينة، ولم يكنْ في هذه السنةِ صائفةٌ للهُدْنةِ التي كانتْ بينَ الرَّشيد وبين الرُّوم.