للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ما أكثرُ ما رأيتَ قريشًا أصابتْ من (١) رسول الله فيما كانت تظهره من عداوته؟ فقال: لقد رأيتُهم وقد اجتمع أشرافُهم يومًا في الحِجْر، فذكروا رسولَ الله فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعاتنا، وسبَّ آلهتنا، وصرنا منه على أمرٍ عظيم -أو كما قال- قال: فبينما هم في ذلك طلع رسول الله ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفًا بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفتُ ذلك في وجه رسولِ الله فمضى، فلما مرَّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتُها في وجهه، فمضى، فمر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فقال: "أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح". فأخذت القوم كلمتُه حتى ما منهم من رجل إلا وكأنَّما على رأسه طائر وقع حتى إنَّ أشدَّهم فيه وصاةً قبل ذلك ليرفَؤُه (٢) حتى إنه ليقول: انصرفْ أبا القاسم راشدًا، فما كنت بجهول.

فانصرف رسولُ الله حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحِجْر وأنا معهم، فقال بعضُهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه. فبينما هم على ذلك طلع رسولُ الله فوثبوا إليه وثبةَ رجلٍ واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يبلغهم من عَيْبِ آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله : "نعم، أنا الذي أقولُ ذلك" ولقد رأيتُ رجلًا منهم أخذ بمجامع ردائِه، وقام أبو بكر يَبْكي دونه ويقول: ويلكم ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ [غافر: ٢٨] ثم انصرفوا عنه. فإنَّ ذلك لأكثر ما رأيت قريشًا بلغتْ منه قط.

فصل في تأليب الملأ من قريش على رسول الله وأصحابه، واجتماعهم بعمِّه أبي طالب القائم في منعه ونصرته، وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم، فأبَى عليهم ذلك بحول الله وقوته.

قال الإمام أحمد (٣): حدّثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله : "لقد أُوذيتُ في الله وما يُؤذَى أحد، وأُخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون (٤) من بين يوم وليلة، وما لي ولبلالٍ ما يأكلُه ذو كَبِد إلا ما يُواري إبْطُ بلال".

وأخرجه الترمذيّ وابنُ ماجَه (٥) من حديث حماد بن سلمة به، وقال الترمذي: حسنٌ صحيح.


(١) ليست اللفظة في ح ولا في الدلائل، وهي في سيرة ابن هشام.
(٢) "يرفؤه": أي يسكِّنُه ويرفق به ويدعو له. النهاية واللسان (ارفأ) وفيهما: إن أشدهم فيه وضاءة؟.
(٣) في مسنده (٣/ ١٢٠).
(٤) في المسند: ثلاثة.
(٥) جامع الترمذي (٢٤٧٢) صفة القيامة باب ٣٤ وسنن ابن ماجه (١٥١) المقدمة باب في فضائل أصحاب رسول الله ، فضائل سلمان وأبي ذر والمقداد. ولفظ الأخير "ولقد أتت عليَّ ثالثة".