للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رسولُ اللَّه في مرضِ موْتِه قد عزم على أنْ يَكْتُبَ كتابًا بخلافة أبي بكر الصدّيق مِن بعده، ثم تركَ ذلك، وقال: "يأبى اللَّهُ والمُؤمنُونَ إلّا أبا بَكر" (١) فترك نَصَّهُ عَليه لوُضوح جلالته، وعظيم قدره عند الصحابة، وعلم أنّهم لا يَعْدلُون به أحدًا بَعْدَهُ، وكذلك وقع الأمرُ، ولهذا يُذكر هذا الحديث في دلائل النبوّة، كما تقدم ذِكْرُنَا له غيرَ مرة في مواضعَ من هذا الكتاب.

وهذا المقامُ الذي نحن فيه من هذا القَبيل، وهو أن الشيء قد يكون ظهوره كافيًا عن التنصيص عليه، وأن الأمر أظهرُ وأوضح وأجْلى من أن يُحْتاجَ معه إلى زيادةِ إيضاح على ما في القلوب مستقر، فالدجّال واضح الذمّ، ظاهر النقص، بالنسبة إلى المقام الذي يَدَّعيه، من الربُوبيّة، فتَركَ اللَّهُ ذِكْرهُ والنصَّ عَلَيه، لما يَعْلَمُ تعالى من عباده المُؤْمنين، من أن مثلَ الدجال لا يخفى ضلاله عليهم، ولا يَهيضُهُمْ ولا يزيدهم إلّا إيمانًا، وتسليمًا للَّه، ولرسوله، وتصديقًا للحق، وردًا للباطل.

ولهذا يقول ذلك المؤمن الذي يُسَلَّطُ عليه الدجّال، فيقتُلهُ، ثم يُحْييه: واللَّهِ ما ازدَدْتُ فِيك إِلا بصيرةً، أنت الأعور الكذَّاب الذي حدثنا عنه رسول اللَّه ، ولا يلزم من هذا أنه سمع خبر الدجال من رسول اللَّه شِفاهًا.

وقد أخذ بظاهره إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الراوي للصحيح، عن مسلم، فحكى عن بعضهم أنه الخَضِرُ (٢)، وحكاه القاضي عياض عن معْمر في "جامعه" (٣).

وقد قال أحمد في "مسْنده"، وأبو داود في "سننه"، والترمذي في "جامعه"، بإسنادهم إلى أبي عبيدة: أن رسول اللَّه قال: "لعله سيدركه من رآني، وسمع كلامي" وهذا مما قد يَتقوَّى به بعضُ من يقول بهذا، ولكن في إسناده غرابة (٤)، ولعل هذا كان قبل أن يُبيَّن له من أمر الدجّال ما بُيِّن في ثاني الحال، واللَّه أعلم.

وقد ذكرنا في قصة الخضر كلام الناس في حياته، ودلَّلنا على وفاته بأدلة أسلفناها هنالك، فمن أراد الوقوف عليها فليتأمَّلها في قَصَص الأنبياء من كتابنا هذا واللَّه أعلم بالصواب.

ذكر ما يعصم من الدجَّال

فمن ذلك الاستعاذة من فتنته، فقد ثبت في الأحاديث الصحاح، من غير وجه أن رسولَ اللَّه


(١) رواه مسلم رقم (٢٣٨٧).
(٢) ذكره في صحيح مسلم بعد الحديث (٢٩٣٨).
(٣) "جامع معمر" الملحق بمصنف عبد الرزاق رقم (٢٠٨٢٤).
(٤) رواه أحمد في المسند (١/ ١٩٥) وأبو داود رقم (٤٧٥٦) والترمذي (٢٢٣٤) وإسناده ضعيف، كما أشار المؤلف إلى ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>