للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فشَمَّتَهُ الناس ولم يُشَمِّتْهُ عافية، فقال له الرشيد: لِمَ لم تشمِّتْني مع الناس؟ فقال: لأنّك لم تحمَدِ اللَّه. واحتجَّ بالحديثِ في ذلك، فقال له الرشيد: ارجِعْ لعَملك، فواللَّه ما كنتَ لِتفعَل ما قيلَ عنك وأنتَ لم تسامِحْني في عَطْسَةٍ لم أحمدِ اللَّه فيها. ثم ردَّهُ ردًّا جميلًا إلى ولايته.

[فيها توفي]

سِيبَوَيْه (١): إمامُ النُّحَاة، واسمه عمرو بن عثمان بن قَنْبَر، أبو بشر، المعروف بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب، وقيل: آل مولى الربيع بن زياد. وإنما سُمِّي لأنَّ أمَّه كانتْ تُرَقِّصُهُ وتقولُ له ذلك، ومعنى سيبويه: رائحةُ التفَّاح. وقد كان في ابتداءَ أمرِهِ يصحَبُ أهلَ الحديثِ والفقهاء، وكان يستملي على حَمّاد بن سَلَمة، فَلحَنَ يومًا، فرَدَّ عليه قولَه، فأنِفَ من ذلك، فلَزِمَ الخليلَ بنَ أحمد، فبَرَع في النحو، ودخل بغدادَ وناظر الكِسَائي. وكان سيبويه شابًّا حسنًا جميلًا نظيفًا، وقد تعلَّق من كلِّ علمٍ بسبَب، وضرَبَ مع كلِّ أهلِ أدَبٍ بسَهْم، مع حداثةِ سِنه؛ وقد صَنَفَ في النحو كتابًا لا يُلْحَقُ شأوُه، وشرَحَهُ أئمةُ النحاةِ بعدَهُ فانغمروا في لُجَجِ بَحْرِه، واستخرجوا من دُرَره، ولم يبلغوا إلى قعره. وقد زعَمَ ثعلبٌ أنه لم ينفردْ بتصنيفِه، بل ساعده جماعةٌ في تصنيفهِ نحوًا من أربعينَ نفسًا، هو أحدُهم؛ وهو أُصولُ الخليل، فادَّعاهُ سيبويه إلى نفسِه. وقد استبعد ذلك السّيرا في في كتابِ "طبقاتِ النحاة". قال: وقد أخذ سيبويهِ اللغاتِ عن أبي الخطَّاب، والأخْفَش وغيرِهما، وكان سيبويه يقول: سعيد بن أبي العَرُوبة، والعَرُوبة يومُ الجمعة، وكان يقول: من قال عروبة فقد أخطأ. فذكر ذلك ليونس فقال: أصابَ للَّهِ درُّه.

وقد ارتحلَ إلى خُراسان ليحظَى عند طلحة بن طاهر، فإنه كان يُحبُّ النَحْوَ فمرض هناك مرضه الذي تُوفي فيه، فتَمثَّلَ عندَ الموت:

يؤمِّلُ دنيا لِتبْقَى لَهُ … فمات المؤمِّلُ قبلَ الأمَلْ

حَثيثًا يُرَوِّي أُصولَ الفسيلِ … فعاشَ الفَسيلُ ومات الرَّجُلْ (٢)

ويُقال إنه لمَّا احتُضر وضع رأسَهُ في حِجْرِ أخيه، فدمعت عينُ أخيه، فاستفاق، فرآه يبكي، فقال:


(١) ترجمته في تاريخ بغداد (١٢/ ١٩٥)، الإكمال لابن ماكولا (٤/ ٤١٩، ٤٢٠)، الفهرست (٧٦)، المنتظم (٩/ ٥٣)، وفيات الأعيان (٣/ ٤٦٣)، سير أعلام النبلاء (٨/ ٣٥١)، البلغة (١٦٣)، نزهة الألباب في الألقاب (٣٨٢)، طبقات الحنفية (٣٧٣).
(٢) كذا البيان في (ب، ح) وحلية الأولياء (٢/ ٣٨٣)، والمنتظم (٩/ ٥٥)، وصفة الصفوة (٤/ ٥٥، ٥٦)، وجاء في رواية الحلية بسند أبي نعيم إلى عبيد اللَّه قال: مرَّ مالك بن دينار على رجلٍ يَغرِسُ فسيلًا، فغَبَرَ عنه يسيرًا، ثم مرَّ بالفَسيل وقد أطعمَ، فسأل عن الذي غرَسَه، فقالوا: مات. ثم أنشأ يقول. . فذكر البيتين. ورواية صدر الثاني منهما: "يُربي فسيلًا ويعنى به".

<<  <  ج: ص:  >  >>