للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: وقيها وافى الرشيدُ جُرْجَان، وانتهتْ إليه خزائنُ عليِّ بن عيسى، تُحملُ على ألفٍ وخمسِ مئةِ بعير؛ وذلك في صَفَر منها. ثم تحول منها إلى طُوس وهو عَلِيل، فلم يزَلْ بها حتى كانتْ وفاتُه فيها.

وفيها تَوَاقَعَ هَرْثَمةُ نائبُ العراق هو ورافِع بن اللَّيث، فكسَرَه هَرْثَمةُ وافتَتح بُخارى، وأسَرَ أخاه بشير بن اللَّيث، فبعثَهُ إلى الرشيد وهو بطُوس، قد ثَمُّل عن السَّيْر، فلما وقف بين يديْه شَرَعَ يترقَّقُ له، فلم يقبَلْ منه، بل قال: واللَّه لو لم يبقَ من عُمري إلَّا أنْ أُحَركَ شَفَتيَّ بقَتْلِك لَقتلتُك. ثم دعا بقصَّاب، فجزَّأه بين يديه أربعةَ عشرَ عُضوًا. ثم رفع الرشيدُ يدَيْهِ إلى السماء يَدْعو اللَّه أنْ يُمكَنَهُ من أخيهِ كما مكَّنَهُ من أخيه بشير.

وفاةُ الرَّشِيد

كان قد رأى وهو بالرَّقَّة (١) رؤيا أفزَعَتْه، وغَمَّهُ ذلك، فدخل عليه جبريلُ بنُ بَخْتَيْشُوع فقال: ما لَكَ يا أميرَ المؤمنين. فقال: رأيتُ كفًّا فيها تُربة حمراء، خرجَتْ من تحتِ سَريري هذا، وقائلًا يقول: هذه تُربةُ هارون. فهَوَّنَ عليه جبريلُ أمرَها وقال: هذه من أضغاثِ الأحلام، من حديثِ النفس، فتناسَهَا يا أميرَ المؤمنين. فلما سارَ يُريدُ خراسان، ومرَّ بِطُوس، واعتقَلَتْهُ العِلَّة بها، ذكَرَ رؤياهُ، فهالَهُ ذلك وانزعَجَ جدًّا؛ فدخلَ الناسُ عليه، فقال لِجبريل: ويحك! أما تذكرُ ما قَصَصْتُهُ عليكَ من الرؤيا؟ فقال: بلَى يا أمير المؤمنين، فكان ماذا؟ فدَعَا مسرورًا الخادمَ وقال: ائتِني بشيءٍ من تُربةِ هذه الأرض في يدِك. فجاءه بتربةٍ حمراءَ في يدِه، فلمَّا رآها قال: واللَّهِ هذه الكفُّ التي رأيتُ والتربةُ التي كانتْ فيها. قال جبريل: فواللَّه ما أتَتْ عليهِ ثلاثٌ حتى تُوفِّي؛ وقد أمَرَ بحَفْرِ قبرِهِ قبلَ موتِهِ في الدارِ التي كان فيها؛ وهي دارُ حُميد بن أبي غانم الطائي، فجعل ينظُرُ إلى قبرِهِ وهو يقول: يا ابنَ آدَم، تصيرُ إلى هذا. ثم أمَرَ أن يقرؤوا القرآنَ في قبره؛ فقرؤوهُ حتى ختموه، وهو في مِحَفَّةٍ على شَفِيرِ القبر؛ ولما حضرَتْهُ الوفاةُ احْتَبَى بِمُلاءَةٍ وجلَسَ يُقاسي سكراتِ الموت، فقال له بعضُ منْ حضَره: لو اضطجَعْتَ كان أهونَ عليك. فضَحِكَ ضحكًا صحيحًا ثم قال: أمَا سمعتَ قولَ الشاعر:

وإنيَ من قومٍ كرامٍ يَزِيدُهُمْ … شِمَاسًا وصَبْرًا شِدَّةُ الحَدَثانِ

وكانتْ وفاتُهُ ليلةَ السبت، وقيل: ليلةَ الأحد مستهل جُمادَى الآخرة، سنةَ ثلاثٍ وتسعين ومئة، عن خمسٍ -وقيل: سبع- وأربعينَ سنةً؛ وكان مُلْكُه ثلاثًا وعشرين سنةً. وهذه ترجمتُه، هو:


(١) في (ق): "بالكوفة"، وهو تصحيف، والمثبت من (ب، ح) وتاريخ الطبري (٥/ ١٤)، وروي الخبر فيه مطولًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>