لقد تبوَّأ الحافظ المفسر المؤرِّخ الفقيه إسماعيل بن كثير مكان الصدارة والاحترام بتحصيله العلمي وتأليفه المدهشة، وتسنَّم مكان الحفاوة والاهتمام بفتاويه الدقيقة، ومواقفه الجريئة.
ورغم أنه أصبح من كبار العلماء، فإنه لم يصل إلى التأثير في الشأن العام، وبخاصة في الحياة الاجتماعية والسياسية كتأثير شيخه ابن تيمية، ولكنه ترك تغييرًا هادئًا، ما زال يفعل فعله الثقافي والحضاري إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها.
وهو يتمتع بحضور تام، وعقل وقَّاد، وقلم سيَّال، وشخصية محترمة ومتميزة، لا يُداهن في الحق، ولا يتهاون في إنكار البدع، ولا يُماري في نبذ الخرافات، وليس بخِبٍّ فلا يخدعُ ولا يُخادَع، ولا يحني رأسه، ولا يكسر قلمه؛ مرائيًا أو متطامنًا.
لقد جمع بين الرزانة والقوة، والرَّصانة والعزيمة، وتجنَّب التطرف والحِدَّة، وظهر في المجالس العلمية الخاصة والعامة شافعيًا ملتزمًا، ومفكرًا مصلحًا، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويثبت بقلمه ولسانه ما يُريد بتبصر وإخلاص، لا يخاف في اللَّه لومة لائم، فينظر إليه الناس بالتقدير والمحبة والإعجاب، وسنرقب ذلك عن كثب وتمعن في مكانته العلمية والاجتماعية.
[أ- مكانته العلمية]
• الفتاوى: أصبح ابن كثير في دمشق من المفتين الكبار، أذن له في الإفتاء الشيخ جمال الدين أحمد بن محمد المعروف بابن القلانسي المتوفى سنة ٧٣١ هـ، ووصفه أقرانه بالفقيه المفتي، والإمام المفتي البارع، وبأنه طارت فتاواه إلى البلاد، ونجتزئ من سيرة حياته فتاوى تدلُّ على تضلع في الفقه مع الإنصاف والحصافة:
- قال الحافظ في "البداية والنهاية"(١٦/ ٢٥١): "وفي يوم الثلاثاء ٢٨ ذي القعدة سنة ٧٣٣ هـ رُكِّب على الكعبة باب حديد أرسله السلطان مرصَّعًا من السنط الأحمر، كأنه أبنوس، مركب عليه صفائح من فضة زنتها خمسة وثلاثون ألفًا وثلاثمئة وكسر، وقُلع الباب العتيق، وهو من خشب السَّاج، وعليه صفائح، تسلَّمها بنو شيبة، وكان زنتها ستين رطلًا، فباعوها كل درهم بدرهمين، لأجل التبرك. وهذا خطأ وهو ربا، وكان ينبغي أن يبيعوها بالذهب لئلا يحصل ربا بذلك".