استحضرَهم فحلفوا بما حلفوا، ثم إنَّ طائفةً من الشِّيعة التفَّتْ على زيد بن علي، وكانوا نحوًا من أربعين ألفًا، فنهاهُ بعضُ النُصحَاءِ عن الخروج، وهو محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وقال له: إنَّ جدَّكَ خيرٌ منكَ، وقد التفَّتْ على بيعَتِه من أهل العراق ثمانون ألفًا، ثم إنهم خانوهُ أحوجَ ما كان إليهم، وإنِّي أحَذرُكَ من أهلِ العراق. فلم يقَبلْ، بلِ استمرَّ يبايع الناس في الباطن في الكوفة على كتابِ الله وسنةِ رسولِهِ، حتى استفحلَ أمرُهُ بها في الساكن، وهو يتحوَّلُ من مَنْزل إلى مَنزل، وما زال كذلك حتى دخلت سنةُ ثنتين عشرين ومئة، فكان فيها مَقتَلُه كما سنذكر قريبًا.
وفيها غزا نَصْرُ بنُ سَيَّار أميرُ خراسانَ غزَوَاتٍ متعدِّدةٍ في التُّرْك، وأسَرَ مَلِكَهم كورصول في بعض تلك الحروب وهو لا يعرفهُ، فلما تيقَّنَهُ وتحقَّقه سأل منه كورصول أن يُطلقَه على أنْ يُرسلَ له ألفَ بعيرٍ من إبلِ التُّرك - وهي البَخَاتِيّ - وألف بِرْذَوْن، وهو مع ذلك شيخٌ كبيرٌ جدًّا، فشاورَ نصرٌ مَنْ بحضرتِهِ من الأمراء في ذلك، فمنهم مَنْ أشارَ بإطلاقِه، ومنهم من أشارَ بقتلِه، ثم سأله نَصْرُ بن سيَّار: كم غزَوْتَ من غزوة؟ فقال: ثنتين وسبعين غزوة. فقال له نصر: ما مِثْلُكَ يُطلق، وقد شهدتَ هذا كفَه! ثم أمَرَ به فضُربَتْ عُنقه، وصَلَبَه. فلما بلغَ ذلك جيشَهُ من قَتْلِه باتوا تلك الليلة يجعُرون ويبكون عليه وجَذُّوا لِحاهم وشعورَهم وقطَعوا آذانَهم، وحرقوا خيامًا كثيرةً وقتلوا أنعامًا كثيرة. فلما أصبح أمرَ نصرٌ بإحراقِهِ لئلا يأخذوا جُثته، فكان حريقُه أشدَّ عليهم من قتلِه. وانصرفوا خائبين صاغرين خاسرين، ثم كرَّ نصرٌ على بلادِهم فقتل منهم خلقًا وأسَرَ أُمَمًا لا يُحصَوْنَ كثرةً، وكان فيمَنْ حضر بين يديه عجوزٌ كبيرةٌ جدًّا من الأعاجم أو الأتراك. وهي من بيت مملكة، فقالت لنصرِ بن سيَّار: كل ملكٍ لا يكونُ عندَهُ ستةُ أشياء فهو ليس بملك: وزيرٌ صادقٌ يَفصِلُ خصوماتِ الناس، ويشاوِرُه ويناصحُه، وطبَّاخٌ يصنَعُ له ما يشتهيه، وزوجةٌ حسناءُ إذا دخل عليها مغتَمًّا فنظر إليها سَرَّتْهُ وذهبَ غَمُّه، وحِصْنٌ مَنِيعٌ إذا فَزِعَ رعاياهُ لجَؤوا إليه فيه، وسيفٌ إذا قارعَ به الأقرانَ لم يخشَ خيانتَه، وذخيرةٌ إذا حملها فأينَ ما وقع من الأرض عاش بِها.
وحجَّ بالناس فيها محمد بن هشام بن إسماعيل نائبُ مكّةَ والمدينةِ والطائف، ونائبُ العراق يوسف بن عمر، ونائبُ خُراسان نصرُ بن سَيَّار، وعلى أرْمِينيَةَ مروان بن محمد بن مروان الحمار.
ذكرُ مَنْ تُوفِّيَ فيها من الأعيان:
زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (١): والمشهور أنه قُتل في التي بعدَها كما سيأتي بيانُه إنْ شاء الله.
(١) ترجمته في طبقات ابن سعد (٥/ ٣٢٥)، طبقات خليفة (٢٥٨)، التاريخ الكبير (٣/ ٤٠٣)، الجرح والتعديل (٣/ ٥٦٨)، مشاهير علماء الأمصار ص (٦٣)، مقاتل الطالبيين (١٢٧)، بغية الطلب في تاريخ حلب (٩/ ٤٠٢٧)، البدء والتاريخ (٦/ ٤٩)، وفيات الأعيان (٥/ ١٢٢)، تهذيب الكمال (١٠/ ٩٥)، الرياض النضرة (١/ ٣٨٤)، تهذيب التهذيب (٣/ ٣٦٢)، تقريب التهذيب ص (٢٢٤).