شعبان سنة ٧٧٤ هـ، وحينما كف بصره في أخريات أيامه كان يملي على ولده عبد الرحمن، وأدلة ذلك صريحة ناصعة الدلالة من أبرزها:
١ - ظهور ذاتية المؤلف في كثير من الحوادث والتراجم لما بعد سنة ٧٣٨ هـ وتصريح المؤلف باسمه.
٢ - تصريح العلماء الذين جاؤوا بعده واستفادوا من كتابه بالنقل منه في عشرات المواضع، لاسيما المقريزي، وابن حجر، والسخاوي.
٣ - تصريح العلماء الثقات بأن ابن كثير أملى من تاريخه إلى شهر وفاته وهو شعبان من سنة ٧٧٤، قال السخاوي في حوادث سنة ٧٧٤ من كتابه "وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام": "وفي أثناء شعبانها انتهى تاريخ العماد ابن كثير، وكان من حين ضرره وضَعْفه يملي فيه على ولده عبد الرحمن"، فهذا نص قاطع لا يحتاج إلى مزيد بيان، ولا يشك عاقل بأن السخاوي كان قد اطلع على نسخة من "البداية" إلى هذا التاريخ، بدلالة نقله منه في سنتي ٧٧٣ و ٧٧٤ هـ، فضلًا عن نصوص أخرى ذكرها المؤرخون أمثال الحافظ ابن حجر وغيره.
على أنَّ الذي وصل إلينا إلى سنة ٦٦٨ هـ، وقد تلاعب في هذا القسم النساخ والتلاميذ. فأضافوا إليه أشياء من عندهم، فعسى أن نقف في قابل الأيام على نسخ أكثر دقة وإتقانًا لهذا القسم منه، لكن المحقق والمراجع بذلا جهدًا في تصفيته.
[٤ - النهاية (ذكر الآخرة وأحوالها. .)]
وفي هذا القسم الأخير من "البداية والنهاية" يجد ابن كثير تفسه من جديد، وتسعفه صفة الحافظ المحدث الجهبذ في ختم الكتاب بالنهاية، حيث يسرد أهم أحاديث الفتن والملاحم، وأشراط الساعة، ونهاية الدنيا، وينتقل بعدها إلى استعراض حوادث الآخرة، من النفخ في الصور مرتين، مرة لقيام الساعة ومرة للبعث والنشور، وما يجري في عرصات القيامة من أهوال، وحساب، وميزان، وصحف، وصراط، وجنة أو نار.
وما أعظمها من نهاية مكملة للدنيا موفية لها، اعتقدها الحافظ ابن كثير بكل جوارحه، ويعتقدها كل مؤمن صادق، ويشعر ببرد اليقين عندما يتحقق الوعد الحق للمؤمنين الأخيار، والوعيد الصادق للكفار الأشرار، ويتنعم الأتقياء الأنقياء في جنة اللَّه الخالدة، ويتقلب الضالون الخاطئون في نار جهنم خالدين فيها أبدًا.
وإذا رجحت شخصية ابن كثير المفسر في مبدأ الخليقة، فإن شخصية المحدث هي الراجحة والظاهرة في النهاية، حيث النصوص الحديثية متلاحقة ومتواصلة، ومع ذلك فإن العلامة ابن كثير لا تغيب عنه النصوص القرآنية، بل هو يستحضرها، ويوظفها في المشهد الأخروي المعروض،