للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال عبد الله بن المبارك: حدّثني رِشْدينُ بنُ سَعْدٍ، حدّثني ابنُ أنعُم، عن أبي عُثْمانَ: أنَّهُ حَدّثَه عن أبي هُرَيرةَ، عن رسولِ الله ، قال: " إن رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخلَ النَّارَ يَشْتدُّ صِيَاحُهُمَا، فقال الربّ : أخْرِجُوهُما، فَأُخْرِجَا، فقال لهما: لأيِّ شَيْءٍ أشْتَدَّ صِيَاحُكُما؟ قالا: فعَلْنا ذَلِكَ لِتَرْحمَنا، قالَ: رَحْمتي لَكُما أنْ تَنْطِلقا فتُلْقيا أنْفُسكُما حَيْثُ كُنْتما منَ النَّار " قال: " فيَنْطَلِقانِ، فَيُلْقي أحَدُهما نَفْسَهُ، فيجْعَلُها اللّهُ عليه بَرْدًا وسَلامًا، ويَقُومُ الآخَرُ، فلا يُلْقي نَفْسَهُ، فيَقُولُ لَهُ الرَّبّ تَعالى: ما منَعَكَ أنْ تُلْقيَ نَفْسكَ، كما ألْقَى صَاحِبُك؟ فيقول: رَبِّ إنّي أرْجوكَ ألّا تُعيدَني فِيها بعدَ ما أخْرَجتني مِنْها، فيقُولُ الرَّبُّ: لكَ رَجاؤُكَ، فَيَدْخُلانِ جَميعًا الجَنَة برحْمَةِ الله ﷿" (١).

وذكر بِلالُ بْنُ سَعْدٍ في خُطبته: أنَّ الله تعالى إذا أمَرَهُما بالرُّجُوعِ إلى النَّارِ يَنْطَلقُ أحَدُهما في أغْلالهِ وَسَلاسِلِه حتَّى يَقْتَحمَهَا، ويتلكَّأ الآخَرُ، فيَقُولُ اللّهُ تَعالى للأوَّلِ: ما حَمَلكَ على ما صَنَعْتَ؟ فيقول: إني خبَرت منْ وَبَالِ مَعْصيتِك ما لمْ أكُنْ أتَعَرَّضُ لِسَخطِكَ ثَانيًا، ويَقُولُ لِلآخَرِ: ما حملك على أن تلكَّأت؟ فيقول: حُسْنُ ظَنِّي بكَ إذْ أخْرَجتني منْها ألّا تُعيدَني إليْهَا، فيَرْحَمهُما اللهُ تَعَالى، وَيُدْخِلُهُمَا الجَنَّةَ.

[فصل]

إذا خرج أهْلُ المَعاصي من النار، فَلَمْ يَبْقَ فيهَا غَيْرُ الكافرين، فإنهم لا يَمُوتُونَ فِيها ولا يَحْيَوْنَ، ولا خُرُوجَ لَهُمْ منْها، ولا مَحيدَ لَهُمْ عنها، بلْ هُمْ خَالِدُونَ فيها أبدًا، وَهُم الَّذينَ حَبَسهُمُ القُرآنُ، وَحُكِمَ عَلَيْهمْ بالْخُلُودِ، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن: ٢٣] وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الاحزاب: ٦٤ - ٦٥] وقال تعالى في سورة النساء: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء: ١٦٨ - ١٦٩].

فهذه ثلاثُ آيات، فيهنّ الحكمُ عَلَيْهمْ بالخُلودِ في النار أبدًا، ليس لَهُنَّ رَابعةٌ مِثْلُهن في ذلك، وأما قوله تعالى: ﴿قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ١٢٨] وقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود:١٠٧].

فقد تكلّم ابنُ جرير وَغَيْرُه منَ المُفسّرين على هذه الآية بكلام يطول بَسْطه، وجَاءَتْ آثارٌ عن


(١) رواه ابن المبارك في "مسنده" رقم (١١١) و" الزهد " (٤١٠ - زوائد نعيم) ومن طريقه خرجه الترمذي رقم (٢٥٩٩) وهو ضعيف. وقد تقدم.

<<  <  ج: ص:  >  >>