للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حتى يدخلَ المسجد، فيُصَلِّي فيه الجمعة ثم لا يَخْرُجُ منه حتى يُصَلِّي العشاءَ الآخرة.

وقد وعَظَ مرَّةً هارونَ الرشيد بكلامٍ حسن، فقال: اعلَمْ أنَّ اللَّه سائلُكَ عن أُمَّةِ نبيِّه، فأعِدَّ لذلك جوابًا، وقد قال عمرُ بن الخطَّاب: لو ماتتْ سخلةٌ بالعراق ضَيَاعًا لَخَشيت أنْ يسألَني اللَّه عنها. فقال الرشيد: إني لستُ كعمر، وإنَّ دَهْري ليس كَدَهْرِه. فقال: ما هذا بِمُغْنٍ عنك شيئًا. فأمر له بثلاثِ مئةِ دينار. فقال: أنا رجلٌ من أهلِ الصُّفَّة، فمُرْ بها فَلْتُقْسم عليهم، وأنا واحدٌ منهم.

[ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومئة]

فيها في صَفَر منها أمَرَ الأمينُ النَّاسَ أنْ لا يتعاملوا بالدراهمِ والدنانيرِ التي عليها اسمُ المأمون. ونَهَى أنْ يُدعَى له على المنابر، وأنْ يُدعَى له ولولَدِهِ من بعدِه.

وفيها تَسَمَّى المأمونُ بإمامِ الهدى؛ وفي ربيع الآخر فيها عَقَدَ الأمينُ لعليِّ بن عيسى بن ماهان الإمارةَ على الجبَل وهمَذان وأصْبَهان وقُمّ، وتلكَ البلاد، وأمَرَهُ بِحَرْبِ المأمون، وجهَّزَ معهُ جيشًا كثيرًا؛ وأنفَقَ فيهم نفقاتٍ عظيمة؛ وأعطاهُ مئتي ألف دينار، ولولده خمسين ألفَ دينار، وألفَيْ سيف مُحلّى، وستة آلاف ثوبٍ للخِلَع. فخرج عليُّ بن موسى بن ماهان من بغداد في أربعين ألفَ مقاتلٍ فارس؛ ومعه قَيْدٌ من فِضَّة ليأتي فيه بالمأمون.

وخرج الأمينُ معه مشيِّعًا، فسار حتى وصلَ الرَّيّ، فتلقَّاهُ الأميرُ طاهرٌ في أربعةِ آلاف، فجرَتْ بينهم أمورٌ آلَ الحالُ فيها أنِ اقتَتَلوا؛ فقُتل عليُّ بن عيسى؛ وانهزم أصحابُه، وحُمل رأسُه وجُثَّتُهُ إلى الأمير طاهِر. فكتب بذلك إلى وزيرِ المأمون ذي الرِّيَاستَيْن وكان الذي قَتَل عليَّ بن عيسى رجلٌ يُقال له طاهر الصغير. فسُمِّي ذا التيمِينَيْن، لأنه أخذ السيفَ بيدَيْه الثِّنْتَيْن، فذبح به عليَّ بن عيسى بن ماهان، ففَرِحَ بذلك المأمونُ وذووه، وانتهى الخَبرُ إلى الأمين وهو يَصيدُ السمَكَ من بركة القصر؛ فقال: وَيْحَك! دَعْني من هذا، فإنَّ كَوْثرًا قد صاد سمكَتَيْن ولم أصِدْ بعدُ شيئًا. وأرْجَفَ الناسُ ببغداد، وخافوا غائلةَ هذا الأمر. ونَدِمَ محمدٌ الأمين على ما كان منه من نَكْثِ العَهْد، وخَلْعِ المأمون، وما وقع من الأمر الفَظيع. وكان رجوعُ الخبَرِ إليه في شوال من هذه السنة.

ثم جهَّزَ عبدَ الرحمن بن جَبَلة الأبْنَاويَّ في عشرين ألفًا من المقاتِلَة إلى هَمَذانَ ليقاتلوا طاهرَ بن الحسين بن مُصعب ومنْ مَعَهُ من الخراسانيَّة؛ فلما اقتربوا منهم تواجهوا فتقاتلوا قتالًا شديدًا، حتى كثرتِ القتلى بينهم، ثم انهزم أصحابُ عبد الرحمن بنِ جَبَلة، فلجؤوا إلى هَمَذان، فحاصرَهم بها طاهرٌ حتى اضطرَّهم إلى أنْ دَعَوْا إلى الصُّلح، فصالحهم وأمَّنَهم، ووَفَى لهم؛ وانصرف عبدُ الرحمن بن جبلة على أن يكونَ راجعًا إلى بغداد، ثم غدَروا بأصحابِ طاهر، وحملوا عليهم وهم غافلون، فقَتَلوا منهم خلقًا،

<<  <  ج: ص:  >  >>